وَقِيلَ: بَلْ هُمَا سَوَاءٌ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمُسْتَصْفَى "، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: إلَّا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَفَصَّلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: النَّافِي إنْ نَقَلَ لَفْظًا مَعْنَاهُ النَّفْيُ، كَمَا إذَا نَقَلَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَنَقَلَ الْآخَرُ أَنَّهُ يَحِلُّ، فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثْبِتٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا فِعْلًا أَوْ قَوْلًا، وَنَفَاهُ الْآخَرُ بِقَوْلِهِ: " وَلَمْ يَقُلْهُ "، أَوْ " لَمْ يَفْعَلْهُ "، فَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ تَتَطَرَّقُ إلَى الْمُصْغِي وَالْمُسْتَمِعِ وَإِنْ كَانَ مُحَدِّثًا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنِيرِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ فَصَّلَ بَيْنَ إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى النَّفْيِ يَقِينًا بِضَبْطِ الْمَجْلِسِ وَتَحَقُّقِ السُّكُوتِ، أَوْ لَا، فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى النَّفْيِ يَقِينًا وَادَّعَى سَبَبًا يُوَصِّلُ لِلْيَقِينِ تَعَارَضَا وَلَا يُرَجَّحُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. وَقَالَ إلْكِيَا: إذَا تَعَارَضَ رِوَايَةُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَكَانَا جَمِيعًا شَرْعِيَّيْنِ اُسْتُفْسِرَ النَّافِي، فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ سَبَبِ عِلْمِهِ بِالنَّفْيِ صَارَ هُوَ وَالْمُثْبِتُ سَوَاءً، وَلِهَذَا لَمْ يُرَجِّحْ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ نَفْيِ الصَّلَاةِ عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ عَلَى رِوَايَةِ الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ النَّفْيَ اُعْتُضِدَ بِمَزِيدِ ثِقَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الرَّاوِيَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ، وَالْمَقْتُولَ عَمُّ أَحَدِهِمَا وَوَالِدُ الْآخَرِ، وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ قَالَ النَّافِي: لَمْ أَعْلَمْ بِمَا يُزِيلُهُ، فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَا يُعَارِضُ الْإِثْبَاتَ، كَرِوَايَةِ «عَائِشَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَهَا وَهُوَ صَائِمٌ» ، وَأَنْكَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ عِلْمِهَا فَلَا يَدْفَعُ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَكَحَدِيثِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ. وَحَاصِلُهُ: إنْ كَانَ النَّافِي قَدْ اسْتَنَدَ إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُثْبِتِ، وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ نَحْوُهُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْمُثْبِتِ، وَهُوَ نَظِيرُ النَّفْيِ الْمَحْصُورِ. وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالْقَتْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَآخَرَانِ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَنَا وَلَمْ يَغِبْ عَنَّا، تَعَارَضَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute