الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ "، وَلَكِنَّهُ مَالَ إلَى اخْتِيَارِ: " كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ " وَهَذَا مَذْهَبُ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ وَهُمْ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَقَالُوا هَذَا لِجَهْلِهِمْ بِمَعَانِي الْفِقْهِ وَطُرُقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، الْفَاصِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا عَدَاهُ مِنْ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَرِيقٌ أَوْلَى مِنْ طَرِيقٍ، وَلَا أَمَارَةَ أَقْوَى مِنْ أُخْرَى، وَالْجَمِيعُ مُتَكَافِئُونَ. وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ حَكَمَ بِهِ، فَيَحْكُمُونَ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَهُ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَبَسَطُوا لِذَلِكَ أَلْسِنَةَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ فِي طَلَبٍ يُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ أَوْ إلَى الظَّنِّ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عِلْمًا وظَنًّا.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْنَا إصَابَتَهُ، وَإِنَّمَا كَلَّفَ الِاجْتِهَادَ فِي طَلَبِهِ، وَكُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي أُصُولِهِ ": قَدْ أَضَافَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا هَذَا إلَى الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: " لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ ": قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ عَلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَنُقِلَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَقَوْلِنَا. وَفِي بَعْضِهَا كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ فِي وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْمُصِيبُ إلَّا وَاحِدًا. وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا مَا أَخْطَأَ مُجْتَهِدٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: صَارَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَالْمُخْطِئُ لَهُ مَعْذُورٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو حَامِدٍ.
إلَّا أَنَّهُ كُلِّفَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. ثُمَّ نَصَّ ابْنُ كَجٍّ عَلَى هَذَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى خَطَأٍ. ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ مَعْذُورٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute