للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْمُقْتَصِدَةُ فَقَالُوا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي عَمَلِهِ قَطْعًا، وَلَا يُقْطَعُ بِإِصَابَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَادَّعُوا أَنَّ فِي الْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ حُكْمًا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ شَوْقُ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَطْلُوبُ الْبَاحِثِينَ، وَرُبَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَ إصَابَتِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْمُجْتَهِدُ مُقَصِّرٌ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَصِرْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ خَطَؤُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، فَقَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً، وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرَةً. وَهَذَا مَذْهَبُ الْغُلَاةِ، وَمِنْهُمْ الْأَصَمُّ وَالْمَرِيسِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاسْتِدْلَال. وَقِيلَ: فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ، إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ لِدِقَّتِهِ وَغُمُوضِ طَرِيقِهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ آثِمٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَفَرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَحُكِيَ. عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَالْقِيَاسُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِيهَا وَاحِدٌ، وَالْفُرُوعُ الَّتِي تَتَجَاذَبُهَا أُصُولٌ كَثِيرَةٌ وَيُسَمَّى طَرِيقُ إثْبَاتِهَا قِيَاسُ عِلِّيَّةِ الْأَشْبَاهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٌ فِيهَا مُصِيبٌ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ الْمُحَصِّلُونَ. وَقَالَ فِي بَعْضِ مَجْمُوعَاتِهِ فِي جَوَابٍ سُئِلَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ خَطَأً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُثَابَ عَنْهُ، لِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَكُونُ فِيمَا لَا يَسُوغُ، وَلَا فِي الْخَطَأِ الْمَوْضُوعِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>