ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ خَطَأً قُصَارَى أَمْرِهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، فَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي الثَّوَابِ عَلَى خَطَأٍ لَمْ يَصْنَعْهُ. وَقَدْ تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ فِي كُتُبِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا حَكَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ الْأَشْبَهَ، وَاَلَّذِي هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَنَّهُ كُلِّفَ إصَابَتَهُ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مَعْذُورًا إنْ كَانَ خَطَؤُهُ صَغِيرًا. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاتِّحَادِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَقِيلَ: يُمْنَعُ مِنْ وُرُودِ التَّعَبُّدِ فِي الْفُرُوعِ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَقِيلَ: السَّمْعُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ ": الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهِ وَاحِدٌ. وَذَهَبَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّ الْمَطَالِبَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي، أَيْ أَنَّ الْمُصَوِّبَةَ انْقَسَمُوا إلَى غُلَاةٍ وَمُقْتَصِدَةٍ.
وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَالَهُ إلْكِيَا. وَقَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ، وَالْبَاقُونَ مُخْطِئُونَ، غَيْرَ أَنَّهُ خَطَأٌ يُعْذَرُ فِيهِ الْمُخْطِئُ وَلَا يُؤَثَّمُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُهُ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ قَوْلٌ سِوَاهُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا قُلْنَاهُ، وَ (الْآخَرُ) أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَنَقَلُوهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَالْمَرِيسِيُّ: إنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ، وَمُخَالِفُهُ خَطَأٌ وَصَاحِبُهُ مَأْثُومٌ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي أُصُولِهِ ": قَالَ فَرِيقٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يَجُوزُ الْفَتْوَى فِي أَحْكَامِهَا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ حُقُوقٌ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ بِعَيْنِهِ.
ثُمَّ إنَّهُمْ افْتَرَقُوا، فَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute