الْفُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْ قَائِلٍ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِإِصَابَتِهِ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، فَهُوَ وَإِنْ أَخْطَأَ - عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إصَابَتِهِ - لَكِنَّهُ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا (الْقَوْلُ الثَّالِثُ) : وَهُوَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا أَمَارَةَ، فَذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ " كَدَفِينٍ ". قَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الِاجْتِهَادُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْعُثُورَ عَلَيْهِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. .
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، فَأَمَّا مَنْ نَفَاهُ فَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ لَا غَيْرَ. .
الثَّالِثُ: مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُصَوِّبَةُ حَدِيثُ بَعْثَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - السَّرِيَّةِ لِسَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ: (لَا تَنْزِلُوا حَتَّى تَأْتُوهُمْ) فَجَاءَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ (لَا تَنْزِلُوا) عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَمَّا عُرِضَتْ الْقِصَّةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُخَطِّئْ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَمْ يُؤَثِّمْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَمَّا اخْتَلَفَ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْوِتْرِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا: (أَصَبْتُمَا) . وَكَذَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: فَكَانَ مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، وَلَمْ يَعِبْ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِيَّةِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّخْصَةِ، أَوْ الْعَكْسِ، فَفَضَّلَ كُلٌّ جِهَةً، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَفْضَلِ وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَعَ الِاخْتِلَافِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute