الرَّابِعُ - سَلَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، لَكِنْ مَا الَّذِي يَعْنِي الْقَائِلُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؟ إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ بُطْلَانَ قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَوْ يَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ. وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ مَا لَا يَكُونُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَبِالصِّحَّةِ مَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ مِنَّا، لِأَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ، كَيْفَ وَأَنَّ مَذْهَبَ الْقَائِلِ بِتَصْوِيبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْأَحْكَامُ تَابِعَةٌ لِظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَإِنْ عَنَيْت بِالْبَاطِلِ وَالْحَقِّ مَا فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَاقِعَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، فَإِذًا الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ الْكُلِّ وَعَدَمِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، لِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى ظَنِّ تَقْيِيدِهِ. الْخَامِسُ: إنَّ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اقْتِدَاءَ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ " وَالْأَصَحُّ فِيهِ الصِّحَّةُ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ إخْلَالُهُ بِمَا يَشْتَرِطُهُ وَيُوجِبُهُ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْمُخَالَفَةِ حِينَئِذٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا رَاجِحًا عِنْدَهُ. وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفَوِّضَ الْقَضَاءَ إلَى الْحَنَفِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ يَعْتَقِدُ الْمُفَوِّضُ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ [فِيهَا] غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ. قَالَ: وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فِيهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَيُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ، فَلَا يَكُونُ الْمُفَوِّضُ عِنْدَ التَّفْوِيضِ مُعِينًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُ مَنْعَهُ.
فُرُوعٌ الْأَوَّلُ: قَدْ رَاعَى الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ خِلَافَ الْخَصْمِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مُدَّعِيَ الْإِصَابَةِ لَا يَقْطَعُ بِخَطَأِ مُخَالِفِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ خِلَافُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَنَظَرَ فِي مُتَمَسِّكِ خَصْمِهِ فَرَأَى لَهُ مَوْقِعًا رَاعَاهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَأَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ، وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ النَّظَرِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute