فِي مِثْلِ ذَلِكَ، الْتَزَمَهُ قَطْعًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ: لَوْ وَجَبَ عَلَى الْكَافَّةِ التَّحْقِيقُ دُونَ التَّقْلِيدِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَعْطِيلِ الْمَعَاشِ، وَخَرَابِ الدُّنْيَا، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُقَلِّدًا، وَبَعْضُهُمْ مُعَلِّمًا، وَبَعْضُهُمْ مُتَعَلِّمًا، وَلَمْ تَرْفَعْ دَرَجَةُ أَحَدٍ فِي الْجِنَانِ لِدَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ ثُمَّ دَرَجَةِ الْمُحِبِّينَ وَقَالَ: الْمَصِيرُ فِي الْمُوجِبِ لِتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ، عَدَمُ آلَةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَتَعَذُّرُهَا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَالْتِمَاسُ أُصُولِ ذَلِكَ، فَلَوْ تَرَكَهُ حَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَهَا، وَيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا لَتَعَطَّلَتْ الْفَرَائِضُ مِنْ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرُوا كُلُّهُمْ عُلَمَاءَ، وَهَذَا فَاسِدٌ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْعَالِمِ الْبَاحِثِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ، وَمِنْ هَذَا امْتَنَعَ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لِمِثْلِهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِدَفْعِ التَّقْلِيدِ وُجُودُ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا.
قُلْت: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقَائِدِ، أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْعَقَائِدِ الْعِلْمُ، وَالْمَطْلُوبَ فِي الْفُرُوعِ الظَّنُّ، وَالتَّقْلِيدُ قَرِيبٌ مِنْ الظَّنِّ، وَلِأَنَّ الْعَقَائِدَ أَهَمُّ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا كَافِرٌ. وَأَوْرَدَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شُبْهَةً لِلْمَانِعِينَ مِنْ التَّقْلِيدِ، قَالَ: إنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَيَتَمَسَّكُونَ بِالظَّوَاهِرِ، وَيَقُولُونَ: حُكْمُ الْعَقْلِ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، وَلَا يُتْرَكُ هَذَا إلَّا لِنَصٍّ قَاطِعِ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ وَالْعَامِّيُّ الذَّكِيُّ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَإِلَّا نَبَّهَهُ الْمُفْتِي عَلَيْهِ، وَعَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ فِي الْوَاقِعَةِ إنْ جَهِلَهُ، وَلَا يُقَالُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ تَمْنَعُهُ مِنْ الْمَعَاشِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي الِاشْتِغَالُ عَنْهَا يُفْضِي إلَى خَرَابِ الْعَالَمِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إيجَابَ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الدِّينِ، وَلَا يُجَابُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ جُمْلَةً وَهِيَ سَهْلَةٌ، بِخِلَافِ الْفُرُوعِ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا، لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ الْجَلِيِّ، فَقَدْ قَلَّدَ فِي بَعْضِهَا، فَيَكُونُ مُقَلِّدًا فِي النَّتِيجَةِ، وَإِنْ عَلِمَهَا وَمَا يَرِدُ فَقَدْ حَصَلَ الِاشْتِغَالُ. وَجَوَابُهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَقْلِيلِ الْأَدِلَّةِ، فَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute