لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ الدَّلِيلِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِدَلِيلِهَا. وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الْمَسَائِلَ الظَّاهِرَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهَا دُونَ الْخَفِيَّةِ. انْتَهَى. وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ وَظِيفَةَ الْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ جَاءَ الْخِلَافُ السَّابِقُ أَنَّهُ هَلْ هُوَ تَقْلِيدٌ حَقِيقَةً؟ فَالْقَاضِي يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ إنَّمَا مُسْتَدِلٌّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعَ الْعَالِمِ، وَهُوَ خِلَافٌ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّقْلِيدِ لَمْ يَرَ إلَّا هَذَا، وَلَكِنَّ لِسَانَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ جَرَى عَلَى صِحَّةِ إطْلَاقِ التَّقْلِيدِ لِلْعَامِّيِّ، وَالنَّهْيُ عَنْ إطْلَاقِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: الْعَالِمُ الَّذِي حَصَّلَ بَعْضَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ: فَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ، لِعَجْزِهِ عَنْ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِهِ، لِأَنَّ صَلَاحِيَّةَ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَيَجِيءُ عَلَيْهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ عَنْ الْجُبَّائِيُّ وَالْأُسْتَاذِ هُنَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَمَا أَطْلَقُوهُ مِنْ إلْحَاقِهِ هُنَا بِالْعَامِّيِّ فِيهِ نَظَرٌ. لَا سِيَّمَا أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ الْمُتَبَحِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُنَصِّبُوا أَنْفُسَهُمْ نَصَبَةَ الْمُقَلِّدِينَ. وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَسْنَا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ الْإِشْكَالُ فِي إلْحَاقِهِمْ بِالْمُجْتَهِدِينَ، إذْ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدٌ مُجْتَهِدًا. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا. لِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا سِوَى حَالَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنَيَّرِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُلْتَزِمُونَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا. أَمَّا كَوْنُهُمْ مُجْتَهِدِينَ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ قَائِمَةٌ بِهِمْ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُلْتَزِمِينَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا فَلِأَنَّ إحْدَاثَ مَذْهَبٍ زَائِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِفُرُوعِهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ مُبَايِنَةٌ لِسَائِرِ قَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُتَعَذِّرُ الْوُجُودِ، لِاسْتِيعَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute