اسْتَوْعَبُوا الْأَسَالِيبَ الشَّرْعِيَّةَ فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أُسْلُوبٌ مُتَمَاسِكٌ عَلَى السَّبْرِ. وَلِهَذَا لَمَّا أَحْدَثَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْجَدَلِيَّةُ بَعْدَهُمْ خِلَافَ أَسَالِيبِهِمْ قَطَعَ كُلُّ مُحَقِّقٍ أَنَّهَا بِدَعٌ وَمَخَارِقُ لَا حَقَائِقَ. لَكِنَّ الْجَدَلِيَّةَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَثْبُتُ بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْجَدَلِيَّةِ، وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ فِي اسْتِحْدَاثِهَا تَمْرِينُ الْأَذْهَانِ وَتَفْتِيحُ الْأَفْكَارِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُسْتَنَدَاتٌ وَحُجَجٌ عِنْدَ اللَّهِ يَلْقَى بِهَا فَلَا. وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فَلَمَّا أَحْدَثُوا قَوَاعِدَ تُخَالِفُ قَوَاعِدَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَتْ بِهِ إلَى الْمُنَاقَضَةِ لِمَجْلِسِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمَّا اجْتَرَءُوا عَلَى دَعْوَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ أُخْرِجُوا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَلَمْ يَعُدَّهُمْ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَحْزَابِ الْفُقَهَاءِ، وَسَبَقَ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ؟ وَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى اتِّبَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لِأَنَّهُمْ سَبَقُوهُمْ بِالْبُرْهَانِ حَتَّى لَمْ يُبْقُوا لَهُمْ بَاقِيَةً يَسْتَبِدُّونَ بِهَا، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَلَكِنَّ الْفَضْلَ لِلْمُتَقَدِّمِ، وَظَهَرَ بِهَذَا تَعَذُّرُ إثْبَاتِ مَذْهَبٍ مُسْتَقِلٍّ بِقَوَاعِدَ.
مَسْأَلَةٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الْمُحِيطِ ": إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْتَحِلَ نِحْلَةَ الشَّافِعِيِّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعِ اجْتِهَادٍ، وَسَهَّلَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِّيِّ، فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ: فُلَانٌ يَتَّبِعُ السُّنَنَ وَفُلَانٌ يُخَالِفُهَا بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِحْسَانِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ لَهُ: خَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْجُهَّالَ مَمْنُوعُونَ مِنْ التَّقْلِيدِ فِي شَيْئَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَ (الثَّانِي) أَصْلُ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ ": اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ مَا الَّذِي أَوْجَبَ عَلَى قَوْمٍ اخْتِيَارَ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute