للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دُونَ غَيْرِهِ؟ فَذَهَبَ أَصْحَابُ دَاوُد وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّا إنَّمَا رَجَعْنَا إلَى مَذَاهِبِهِمْ وَالْأَخْذِ بِأَقَاوِيلِهِمْ وَالْعَمَلِ بِفَتَاوَاهُمْ تَقْلِيدًا لَهُ، وَلَا يَجِبُ الْفَحْصُ وَالْبَحْثُ عَنْ الْأَدِلَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ دُونَ قَوْلِ غَيْرِهِمْ.

وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الْعِصْمَةَ فِي جَمِيعِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَقَالَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّا إنَّمَا صِرْنَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّا وَجَدْنَاهُ أَهْدَى النَّاسِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَكْمَلَهُمْ آلَةً وَهِدَايَةً فِيهِ، فَلَمَّا كَانَتْ طَرِيقَتُهُ أَسَدَّ الطُّرُقِ سَلَكْنَاهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْفَتَاوَى، لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ: أَمَّا فِي اللُّغَةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ فَلِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حَتَّى وَرَدَ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ فَزِعَ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنْ يَذْكُرُوا فَضْلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَالِكٍ، وَمِنْهُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ جَمِيعُ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ حَفِظَهُ الشَّافِعِيُّ وَزَادَ عَلَيْهِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَقْدَمَ فِي هَذِهِ الصَّنْعَةِ مِنْ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ. وَأَمَّا الْآي وَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ فَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِهَا. انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَدَعْوَى انْتِفَاءِ التَّقْلِيدِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَحَاطُوا بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ. وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ عَامِّيٍّ تَقْلِيدُهُ، وَتَابَعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ. وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إلَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>