وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الْمُضْطَرُّ الْمَحْمُولُ عَلَى مَا عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ. وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ قَاطِبَةً أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ فِعْلٌ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ فِيهِ الْغَيْرُ فِعْلًا هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَقْدُورَاتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ فِيهِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مُدَافَعَةِ الْفِعْلِ، وَخَالَفَهُ ابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ.
فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُلْجَأَ قَادِرٌ عَلَى مَا أُلْجِئَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ غَيْرُهُ فِعْلًا، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي تَعْرِيفِهِ، فَالْمُلْجَأُ دُونَ الْمُضْطَرِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، وَدُونَهُمَا الْمُكْرَهُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ مِنْ عَدَمِ اخْتِيَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ كَالْآلَةِ الْمَحْضَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْمٌ، هُوَ الْمُضْطَرُّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقَى عَلَى شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ أَوْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ فَمَاتَ وَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ. وَلَيْسَ كَالْمُكْرَهِ وَلَا كَالْمُضْطَرِّ فَإِنْ انْضَمَّ إلَى عَدَمِ اخْتِيَارِهِ عَدَمُ إحْسَاسِهِ وَشُعُورِهِ فَأَبْعَدُ عَنْ الضَّمَانِ.
وَقَدْ خَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهُوَ الْحَقُّ، ثُمَّ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ وَالْمُخْتَارُ سَوَاءً فِي الِاخْتِيَارِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: قَالَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ ": الْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمُخْتَارَ مُطْلَقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute