للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَيَانُهُ: أَنَّ نَفْسَهُ وَنَفْسَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى مَنْ يَقْتُلُهُ مُسْتَوِيَانِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَإِيثَارُهُ نَفْسَهُ نَاشِئٌ عَنْ شَهَوَاتِ الْأَنْفُسِ وَحُظُوظِهَا، وَمَحَبَّتِهَا الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَزْيَدَ مِنْ مَحَبَّتِهَا لِبَقَاءِ غَيْرِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنْ نَظَرِ الْعُقَلَاءِ، الشَّرْعَ الَّذِي يَتَعَبَّدُونَ بِهِ.

وَبِهَذَا خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي اُسْتُثْنِيَتْ مِنْ قَوْلِنَا: الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ حِينَئِذٍ جَعَلَ فِعْلَهُ كَلَا فِعْلٍ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا عَلَى أَمْرٍ حِسِّيٍّ لَا يُنْسَبُ إلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ، وَإِنْ كَانَ نَاشِئًا عَنْهَا فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِكْرَاهِ الْفِعْلُ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَوْضِعَ الْحُكْمِ الِانْفِعَالُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْوُقُوعِ بَعْدَ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أَثَرُ الْفِعْلِ، وَالشَّارِعُ قَدْ يُرَتِّبُ الْحُكْمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَدْ رَتَّبَهُ عَلَى الِانْفِعَالِ وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي رَفْعُهُ مَشَقَّةٌ عَلَيْنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ؟ وَبِهَذَا خَرَجَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الرَّضَاعِ وَعَلَى الْحَدَثِ، فَإِذَا أَكْرَهَ امْرَأَةً حَتَّى أَرْضَعَتْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ حَرُمَ رَضَاعُهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ حَتَّى لَوْ حُلِبَ قَبْلَ مَوْتِهَا وَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا حَرُمَ، وَإِذَا أُكْرِهَ فَأَحْدَثَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، لِأَنَّ الِانْتِقَاضَ مَنُوطٌ بِالْحَدَثِ وَقَدْ وُجِدَ.

ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهَذَا مَوْضِعُ الرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ مِنْ الشَّارِعِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِحَقٍّ فَقَدْ كَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْمُكْرَهِ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أُكْرِهَ وَلَمْ يَسْقُطْ أَثَرُ فِعْلِهِ، وَكَانَ آثِمًا عَلَى كَوْنِهِ أَحْوَجَ إلَى أَنْ يُكْرَهَ، وَهَذَا كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ يُكْرَهَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِسْلَامُهُمَا صَحِيحٌ وَهُمَا آثِمَانِ، لِكَوْنِهِمَا أَحْوَجَا إلَى الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْإِسْلَامُ إنْ وَقَعَ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>