وَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ اسْتِحْضَارِ أَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ مُبَاحَيْنِ لَا مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ. إذَا عَلِمْت مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِهِمْ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ وَفِيمَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ مُبَاحَيْنِ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الْآخَرِ، فَبِإِزَاءِ ذَلِكَ النَّهْيِ التَّضَمُّنِيِّ، التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْإِيقَاعِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَحْظُورَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ فِي الْحَظْرِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: لَا تَأْتِ زِنًى أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: ٢٤] ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُ طَاعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُفْرَدَيْنِ وَمُجْتَمِعَيْنِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: حَظَرْت عَلَيْك طَاعَةَ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النَّاسِ؛ إذْ كَانَ تَرْكُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى تَرْكَ طَاعَةِ الْآخَرِ، كَمَا كَانَتْ الْإِبَاحَةُ فِي مُجَالَسَةِ الْحَسَنِ أَوْ ابْنِ سِيرِينَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: لَوْ قَالَ: " أَوْ لَا تُطِعْ كَفُورًا " لَانْقَلَبَ الْمَعْنَى، فَصَحِيحٌ وَذَلِكَ. أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ أَوْ التَّخْيِيرِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا قَالَ: " أَوْ لَا تُطِعْ كَفُورًا " صَارَتْ فِي أَثْنَاءِ قَضِيَّتَيْنِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا الَّتِي تَلِي " أَوْ " غَيْرُ الْأُولَى الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَخْرُجُ بِذَلِكَ إلَى مَعْنَى " بَلْ " إذَا كَانَتْ " بَلْ " لَا تَرِدُ فِي أَثْنَاءِ قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَتْ " أَوْ " بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَضْرَبَ عَنْ النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْآثِمِ وَانْتَقَلَ إلَى النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ الْكَفُورِ. وَهَذَا قَلْبٌ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ مِنْ تَرْكِ طَاعَتِهِمَا أَوْ مُنْفَرِدَيْنِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ النَّهْيَ إذَا دَخَلَ عَلَى " أَوْ " الَّتِي لِلْإِبَاحَةِ حُظِرَ الْكُلُّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا كَمَا فِي: لَا تَتَعَلَّمْ الشِّعْرَ أَوْ أَحْكَامَ النُّجُومِ، فَهِيَ نَهْيٌ جَمْعًا وَإِفْرَادًا كَمَا كَانَ لَهُ فِي الْأَمْرِ فِي الْإِبَاحَةِ فِعْلُهُمَا جَمْعًا وَإِفْرَادًا، وَإِذَا دَخَلَ عَلَى " أَوْ " الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ كَقَوْلِك: لَا تَأْخُذْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا فَالْأَشْبَهُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَحَدِهِمَا. قَالُوا: فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ نَظَرٌ هَلْ يَكُونُ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا؟ قَالَ: ابْنُ الْخَشَّابِ: وَجْهُ النَّظَرِ أَنَّ التَّخْيِيرَ الَّذِي كَانَ فِي الْأَمْرِ هَلْ هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute