وقد تكرر لفظ الغفران في القرآن مرات ومرات مما يدل على سعة رحمة الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(إن لله مائة رحمة، أنزل منها في الأرض رحمة واحدة يتراحم بها العباد، حتى ترفع الدابة حافرها عن وليدها حتى لا تطأ عليه، فإذا كان يوم القيامة بسط الرحمن رحمته فغفر الذنوب وستر العيوب) أو كما قال رسول الله، ومن واسع رحمة الله في ذلك اليوم أن الشيطان الرجيم يظن أن رحمة الله ستناله، فلماذا نغلق الباب أمام الناس؟ لماذا نضيق على الناس ونقول لهم: لابد من كذا وكذا؟! فباب الرحمة واسع، فإذا تحققت التوبة غفر الذنب مهما كان، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشورى:٢٥] بشرط: أن تتحقق في قلوبنا التوبة والندم، والعزم على عدم الرجوع إلى الذنب، فإذا تحققت هذه الشروط -بإذن الله- يغفر الله الذنب مهما كان.
لقد قتل رجل مائة نفس ومع ذلك استقبلته ملائكة الرحمة، مع العلم أنه ما صنع خيراً قط، إلا أنه خرج بقلب تائب، وصدق في توبته، فصدق الله معه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، تقول ملائكة الرحمة: يكفي أنه خرج بقلب تائب، وتقول ملائكة العذاب: إنه ما صنع خيراً قط، فاختصموا فيه، فأرسل الله ملكاً على صورة بشر يحكم بينهم فقال: قيسوا المسافة بين هذه القرية وتلك، فكان إلى القرية التي خرج إليها أقرب بشبر واحد.
وجاء في رواية: أن الله أمر تلك القرية أن تقاربي، من أجل هذا الذي خرج تائباً.
هذا واحد فكيف لو تاب الناس ورجعوا إلى ربهم جل في علاه؟ إذاً: فالغفران دليل الرحمة، وقد تكرر قوله:((غَفُورٌ رَحِيمٌ)) عشرات المرات في القرآن مما يدل على ذلك، والمغفرة والتجاوز عن الذنوب دليل عزة لا دليل ضعف، ولذلك لما خاطب الله عيسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم:{أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:١١٦ - ١١٨] ولم يقل: إنك أنت الغفور الرحيم؛ لأن الموقف موقف عزة، وموقف تفضل وكرم، فلو عذب الله البشرية من أولها إلى آخرها لما كان ظالماً لها، (إنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا) والذي يقول هذا هو خير من صلى وصام وقام، وخشي الله في السر والعلانية، يقول: وحتى أنا لن أدخل الجنة بعملي، وقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، (إلا أن يتغمدني الله وإياكم بفضل منه ورحمة)، لذلك يقول الله يوم القيامة:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}[يونس:٥٨] ليس بأعمالهم، وإنما يفرحون بفضل الله ورحمته، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:٥٨]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:(للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عن لقاء ربه جل في علاه){إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}[المائدة:١١٨ - ١١٩].