[وأمرهم شورى بينهم]
ثم هو صلى الله عليه وسلم ما أخرجهم للقاء الكفار، بل أخرجهم لملاقاة القافلة التي يبلغ عدد جمالها ألفاً، ويحرسها أربعون رجلاً، فأخرج قوة تناسب ذلك الموقف، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فالأمر مقدور عليه؛ ولذا لم يحرض المؤمنين في المدينة على الخروج أبداً ولم يلزم أحداً بذلك، بل ترك الأمر اختيارياً لمن أراد أن يخرج، وبالرغم من أنه نبي مرسل يأتيه الوحي من السماء والقائد الأعلى، فقد كان يستطيع أن يفصل في الموضوع برأيه، لكنها حرية الإسلام في إبداء الرأي، وسبحان الله! ما أسهل حقوق الإنسان في أي مكان؟ فأسهل حقوقه أن يبدي رأيه، وهذا الحق محروم منه العالم الإسلامي، فلا يستطيع الإنسان فيه أن يقول ما يريد، حتى إننا وصلنا إلى درجة أننا لو تكلمنا فيما بيننا يقال أحدنا: اسكت فللجدران آذان! وأقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٧٥]، فبالرغم من أنه نبي مرسل وهو القائد الأعلى لكنه لم يفصل في الأمر؛ لأن الله قال: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:١٥٩].
واليوم تتخذ قرارات لا ندري عنها شيئاً، وهي قرارات تتعلق بمصير أمة! قرارات تتخذ والأمة لا تدري من يتخذ هذه القرارات! والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينفرد بالرأي ولا بالقرار، بل سارع إلى عقد مجلس عسكري كما يسمى في هذه الأيام، والمقصد منه تبادل الرأي مع قادة الجيش، فقد تغيرت الظروف، فالموقف الذي وقفه المسلمون كان خطيراً جداً.
إذا: ً t لا عجب يوم أن صدقوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ عمر: (يا عمر! وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر اطلاعة، وقال: اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟)؛ وذلك لشدة الموقف الذي وقفوه، فهي أول مواجهة بين المعسكرين، وقد سماه الله يوم الفرقان؛ فهو يوم فرق الله فيه بين عقيدة الكفر وعقيدة الإيمان، ويومها تعلم المسلمون كيفية استمداد أسباب النصر من السماء.
فالجيش المسلم ما خرج للقتال، بل لأخذ قافلة فيها أربعون رجلاً وألف بعير، وبالإمكان السيطرة عليهم في أقل من ساعة، لكن الوضع تغير الآن، فبين لقادة الجيش أنهم خرجوا لأخذ العير، وهم الآن أمام النفير، فقد خرجتم تريدون القافلة، والآن أنتم أمام جيش لا يعلم به إلا الله! فمنذ أن بزغ نور الإسلام في الجزيرة لم تخرج القبائل ألف رجل مدججين بالسلاح عندهم كاملي عدة الحرب، ثم هناك دوافع تدفع المشركين للخروج، منها: حماية أموالهم، ثم الحقد الدفين الذي يحملونه على الإسلام والمسلمين، فليست العدة والعتاد من يحركهم فقط، بل يحركهم الحقد الدفين الذي يحملونه على الإسلام وأهله، ولا يحرك معسكر الباطل اليوم إلا الحقد على المسلمين.
يا إخوان! في الفلوجة يقتلون الأطفال والنساء، فما ذنبهم وهم لم يحملوا السلاح أبداً؟ فكثير من الصحفيين وممن شاهدوا المعركة هناك يقولون: إن إصابات الأطفال والنساء في رءوسهم! رصاصات القناصة تقتنص الأطفال والنساء، فلو قصفوا قصفاً عشوائياً لقلنا: يموت الصغير ويموت الكبير، لكنهم يتعمدون الصغار والنساء! وقد طالبوا بهدنة؛ لأن معسكر الإسلام هناك أراهم أن المقاومة على أشدها، والرجال هناك لم يطالبوا بهدنة ولا بوقف قتال، بل قالوا: أعطونا وقتاً لإخراج الأطفال والنساء ثم اجعلوا المعركة بيننا وبينكم، يخرج الأطفال والنساء فقط ثم سترون كيف ستكون المعركة! وهكذا معسكر الإسلام في كل حين في الاستفادة من مثل هذه الدروس، فحين بدءوا الحصار حول الفلوجة، أجرى صحفي لقاءً مع أحد عامة أهل الفلوجة، يقول له: ماذا أعددتم لهذا الحصار؟ قال: أعددنا لهم لا إله إلا الله، محمد رسول الله! من أين استمدوا هذا الاستعداد؟! أليس من هذه الأسطر؟ أليس من دلك الماضي الذي نستمد منه القوة في كل حين وفي كل زمان.
أبناء الإسلام عندهم أتم الاستعداد للدفاع عن دينهم، حتى عصاة المسلمين، فهم يملكون في قلوبهم من الغيرة على الإسلام ما يكفي للدفاع عن الأعراض، فماذا لو فتحت لهم الأبواب؟! قال الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:٥ - ٦]، لكن هناك وعد رباني ((وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ)) لكن النفوس البشرية {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:٧] لكن ليحق الله الحق، ويبطل الباطل، قال سبحانه: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال:٤٢] يعني القافلة، أنت هنا وهم هناك، {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:٤٢] لكنها المواعيد الربانية، {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:٤٢].
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناده عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: (إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة من الشام، فهل لكم أن نخرج إليها عسى الله أن ينفلكموها) قلنا: بلى، فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تغيرت الظروف: (ما ترون في قتال قوم؟) قلنا: لا والله ما لنا طاقة لقتال العدو، ولكنا أردنا العير، ثم كررها عليهم: (ما ترون في قتال قوم) فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد بن عمرو: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤]، لكنا نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
يقول أبو أيوب: فتمنينا معشر الأنصار أننا قلنا مثل هذه المقولة، ووالله لو قلناها لكان أحب إلينا من كل مال الدنيا، قال: فأنزل الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:٥].
وهذا ما حاك في نفوس فريق من المؤمنين؛ لأنهم كرهوا القتال، لكن الله قال: ((كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ))، نعم أحبتي! فالتطورات المفاجئة المتسارعة جعلت الموقف خطيراً جداً، ولا يلامون على مثل هذا رضي الله عنهم، فهم أرادوا العير كما قال الله: ((وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ)) هذا ما أرادوه، وهذا ما خرجوا من أجله، لكنهم علموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين: إما العير، وإما النفير، لكنها النفوس البشرية، ولقد قام رجال بدر بعمل خيالي في ذلك اليوم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (ما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم؟) رواه الشيخان.