[قصة شاب تائب]
شاء الله في علاه أن نجتمع بإنسان في منطقة عمل، وهو ينتمي إلى تيار وأنا أنتمي إلى تيار آخر، فليس هناك أي نقطة توافق بيني وبينه، فإما أن يؤثر علي وإما أن أؤثر عليه، لكن دائماً الحق يعلو ولا يعلى عليه، والمفترض أن صاحب الاستقامة هو الذي يؤثر ولا يؤثر عليه الآخرون، فهو من جدة وأنا من الظهران، ونعمل في نفس العمل في منطقة جيزان، فأمرنا أنا وهو بالاجتماع هناك حتى نؤدي هذا العمل، فاجتمعت به ومنظري يختلف عن منظره، وتوجهاته تختلف تماماً عن توجهاتي، وأفكاره تختلف تماماً عن أفكاري، فقلت في نفسي: كيف ستكون هذه المدة مع هذا الشاب؟ وقال هو في نفسه: ثلاثة أشهر فترة عمل مع هذا، لا أدري كيف ستمر الأيام وتنقضي! فقد جمعنا مكتب واحد، ومكان نوم واحد، وسيارة واحدة نذهب ونجيء معاً.
وكنت لا أقبل بالصلاة إلا في المسجد، وتجد في بعض المؤسسات يجعلون غرفة مصلى تقام فيها الصلاة، مع أن المسجد قريب منهم، فإذا لم يتعود الإنسان أن يحث الخطا إلى المساجد فما قيمة هذه الأقدام؟! وإن لم تتعود أن تخطو وتسير إلى المسجد في الجمعة والجماعات فما قيمة هذه الأقدام؟! وأول صلاة حضرت وأنا وإياه في المكتب قلت له: هيا نصلي، قال: الغرفة قريبة، قلت: لا، أنا لا أصلي في الغرف، أنا لا أصلي إلا في المسجد، قال: كلهم يصلون في الغرفة، قلت: أنا لا أصلي إلا في المسجد، فإن المسجد لا يبعد أكثر من مائة متر أو مائتي متر، فكيف نستثقل الخطا إلى المساجد؟! إنك ما خطوت لله خطوة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، وستعرف هذا يوم توضع الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة)، فأجر الخطوات إلى الطاعات لا يضيع أبداً، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:١٩٥].
فسبحان الله! بدأ هذا الشباب يخطو معي إلى المسجد في كل صلاة، وبدأ يتعود على الذهاب إلى المسجد، ولأنه يسكن معي في غرفة واحدة فهو مضطر إلى أن يقوم لصلاة الفجر، وسبحان الله ما أثقل صلاة الفجر عليه! فقد كان يستغرق وقتاً طويلاً حتى ينتبه من رقدته وغفلته، فكم هي ثقيلة الطاعات على ضعاف الإيمان، وكم هي سهلة على من سهلها الله عليه، فبدأ يتعود على الاستيقاظ لصلاة الفجر، وبدأ يتعود على الذهاب إلى المسجد، وبدأت حياته تتغير، وقد كان صاحبي على موعد مع حياة جديدة بدايتها انطلاقة من المسجد.
وهكذا ينطلق الشباب مع الهداية من المساجد، واعلم أن أي هداية ليس مبناها المسجد فليست بهداية حقيقية، وأي هداية لا تربطك ببيت الله فليست بهداية حقيقية: لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح وقد كنا في شهر شوال بعد رمضان، ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن يتبع رمضان بست من شوال، (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)، فهذه الطاعة أيام معدودة: ستة أيام، والبعض قد يصوم شهراً كاملاً ثم يستثقل هذه الأيام الستة، وقد كنا في أحد المكاتب فقال قائل في ذلك المكتب: اليوم تفطرون معنا، فقلت: لم نبدأ الصيام بعد.
وسنبدؤه غداً، فقال صاحبي: صيام أيضاً! ذهاب إلى المسجد، واستيقاظ لصلاة الفجر، والآن تريد أن تلزمنا بالصيام أيضاً! قلت: وما الذي يؤخرك عن الصيام؟ أما صمت رمضان؟ قال: بلى، قلت: إذاً ما الذي يمنعك أن تنال مثل هذا الأجر، {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:٤٢].
فسبحان الله نستثقل أمور الطاعات ولا نستثقل أمور الدنيا! متى سنعرف أننا لم نعط العمر إلا لنصرفه في الطاعات والقربات، والتقرب من الله رب الأرض والسماوات.
فبدأنا الصيام من اليوم الثاني، ولك أن تتخيل منظر صاحبي وهو يستيقظ قبيل الفجر بنصف ساعة حتى يشرب كأساً من الحليب، ويأكل شيئاً من الطعام؛ استعداداً للصيام! فبدأ صاحبي يتعود على إقامة الصلاة، وعلى التقرب إلى الله بالقربات: من صيام، وقراءة قرآن، فأتممنا من الصيام خمسة أيام، ثم جاءتنا مهمة عمل إلى جدة، فاضطررنا إلى السفر وقطعنا الصيام، فتبقّى علينا صيام يوم واحد، فقلت: نصومه إن شاء الله إذا رجعنا من السفر، فمكثنا في جدة ما شاء الله أن نمكث، ثم رجعنا فإذا بصاحبي يذكرني، ويقول: يا شيخ! باقي علينا صيام يوم، فقلت: سبحان الله! الذهاب إلى المسجد، والذهاب إلى الطاعات، والانشغال بالقربات غيرت من حياة صاحبي، وهذا ما يحتاجه الشباب اليوم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:١١].
وفي تلك المنطقة ارتبطنا بكلمات ودروس ومحاضرات، فبدأ صاحبي يقول لي: إذا ذهبت إلى المساجد بعد نهاية الدوام للكلمات وللقاء الشباب فإني سأراففك، فقلت: أبشر بالذي يسرك، والله! لن أخطو خطوة إلّا وأنت معي.
كنا ننتهي من الدوام، وأحظر ثيابي معي، وأغير في مكان العمل، ثم ننطلق إلى أقرب مكان يكون لنا فيه ارتباط، فبدأ صاحبي يخالط الأخيار والصالحين، فرأى منظرهم يختلف، ورأى أن كلامهم يختلف ورأى أن سيماهم تختلف عن الآخرين، فكلامهم ومظهرهم كله مرتبط بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلّا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، فكم هي الأوامر التي تخالف اليوم، وكم هي السنن التي تهمل في حياة الناس اليوم، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:١٥].
ومع الوقت قال لي صاحبي: أنا أريد أيضاً أن أجهز نفسي قبل الذهاب إلى الكلمات والدروس والمحاضرات، فألبس ثياباً نظيفة، وأريد أن أتعطر وأتطيب حتى أخالط الآخرين، فقلت: لك ما تريد، فصار يحضر ثيابه، ثم نغير ونبدل وننطلق إلى أقرب مكان يكون لنا فيه ارتباط، وكان ذلك في قرية من القرى، وكان الارتباط عندنا من صلاة المغرب حتى صلاة العشاء، ثم أصروا عليّ وقدموني لصلاة العشاء، وعندما كنت أسوي الصفوف إذا بصاحبي في ميمنة الصف يخط ثوبه في الأرض شبراً، ورأيته يكبكب ثوبه ويرفعه إلى ركبته، فلما انتهينا وانطلقت أنا وإياه راجعين إلى مكان إقامتنا قال لي بصريح العبارة: يا شيخ! ثيابي تفشل، هكذا بالحرف الواحد، قلت: غيرِّ، من الذي يحول بينك وبين التغيير، فغير صاحبي ثيابه، وغير نمط الحياة رأساً على عقب.
وبعد أيام وجدته يحمل في جيبه مشطاً صغيراً، وكل يوم يمشط لحيته المكونة من شعيرات صغيرة لا تكاد تظهر، فقلت له: لماذا هذا المشط؟ قال: أريد أن تكون لي لحية أحسن من لحيتك، وكان يسألني: ماذا يقولون في دعاء الاستفتاح؟ وماذا يقولون في السجود؟ وماذا يقولون في الركوع؟ سبحان الله! عمره على وشك الثلاثين ولا يعرف من الدين شيئاً، وهكذا كثير من الناس يعيشون ولا يعرفون من دينهم شيئاً، فأخذ صاحبي يتعلم كل يوم أموراً جديدة تحيي قلبه، وتغير في حياته، وبعد كل صلاة يخرج الناس من المسجد وهو يجلس في مصلاه، فيفتح حصن المسلم الذي فيه أذكار الصلاة، وأذكار المساء، وأذكار الصباح، وأذكار النوم، وبدأ صاحبي يتعلم كيف يكون الاتصال بالله جل في علاه، فالله يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:١٥٢]، ويقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، فبدأت حياة صاحبي تتغير رأساً على عقب، وبدأ صاحبي حياة جديدة شعارها العودة إلى الله، شعارها هداية واستقامة ودعاء وتضرع إلى الله، وسؤال الثبات على هذه الاستقامة، فقد جمعتنا غرفة واحدة، فكم من ليلة استيقظ في ساعات الليل الأخيرة فأجده فارشاً سجادته وصافاً قدميه بين يدي الله، لقد جرب صاحبي طعم الطاعة، وقد سألته بعد حين وقلت له: كيف كنت تعيش؟ قال: والله لقد كنا أمواتاً فأحيانا الله، وإن الحياة من قبل لا قيمة لها ولا طعم ولا لون، فقد كنا كالأنعام بل كنا أضل.
وقال: إن عمله كان يبدأ من الساعة السادسة صباحاً حتى الثانية ظهراً، ثم يرجع فيأكل ثم ينام بلا صلاة ولا طاعات ولا واجبات، فينام حتى الحادية عشر أو الثانية عشر ليلاً، فيفوت صلاة العصر والمغرب والعشاء، ثم يمكث الساعات الطوال أمام الشاشات والقنوات حتى يحين موعد العمل، ثم يذهب إلى العمل، فأي حياة هذه؟ وما قيمة الحياة بهذه الصورة؟! {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٣ - ٤٤]، فلما استقام صاحبي تغيرت حياته، وصار ملازماً للمسجد مع صفوف المصلين، وتغيرت حياة صاحبي يوم بدل الأغنية بالقرآن، وتغيرت حياة صاحبي لما بدل الرفقة السيئة بمصاحبة الأخيار، فأصبح مثلاً يضرب في تلك البلاد، فوالله إنه من شدة حيائه وخوفه صار مضرباً للمثل هناك، فما يتناقل الناس في تلك المنطقة إلا أخبار فلان، فقد كان ميتاً وإن كان يشرب ويأكل ويروح ويغدو مع الناس، لكن الناس بلا هداية كالأموات، فالذي يعيش بلا هداية ميت لا قيمة له، كما قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢]، فشتان يا إخوان! بين أصحاب الجنة وبين أصحاب النيران، أيستوي الأعمى والبصير؟ أتستوي الظلمات والنور؟ أيستوي الأحياء والأموات؟ لا يستوون.
أحبتي! إن نعمة العقل نعمة عظيمة يمتلكها كل إنسان، ولا يستعملها إلا القليل، أما يعرف الإنسان ما يضره وما ينفعه؟! أما آن عما أنت فيه متاب وهل لك من بعد الغياب إياب تقضت بك الأعمار في غير طاعة سوى عمل ترجوه وهو سراب فلم يبق للراجي سلامة دينه سوى عزلة فيها الجليس كتاب