أما أهل الصلاح فإن لليلِ والنهار معنى آخر عندهم، كان عمر بن عبد العزيز يقول: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما.
وكان الصديق يوصي عمر قائلاً: إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله حقاً في النهار لا يقبله بالليل.
فأين نحن من هذه الحقوق والواجبات؟ فما وصلت الأمة إلى الحالة التي وصلت إليها إلا لغفلة الشباب والشيب.
زار أبو ذر مكة بعد طول غياب فرأى من أهلها عجباً، رآهم قد تطاولوا في البنيان، ورآهم توسعوا في المأكل والمشرب، فنادى بهم وهو يطوف حول الكعبة، فقال: يا أيها الناس! أنا جندب بن جنادة، وأنا لكم ناصح مشفق أمين.
فأقبلوا عليه، فقال: أرأيتم لو أن رجلاً أراد السفر، أليس يأخذ من الزاد ما يبلغه في سفره؟ قالوا: بلى، قال: فإن سفر الآخرة أطول ما تريدون فخذوا له ما يبلغكم، قالوا: وما يبلغنا؟! قال: صلوا في ظلمة الليل لظلمة القبور، وحجوا حجة لعظائم الأمور.
واجعل الدنيا مجلسين: مجلساً في طلب الآخرة، ومجلساً في طلب الدنيا، وآخر يضرك لا تَرِدْه، واجعل الدرهم درهمين: درهماً تنفقه في سبيل الله، ودرهما تنفقه على نفسك وعيالك ومن عندك، وآخر يضرك لا ترده، ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتؤملون فتطيلون، قتلكم حرصٌ على الدنيا لستم ببالغيه.
أقول: إلى الله المشتكى، كيف لو جاء أبو ذر ورأى أحوالنا؟ ورأى القصور الشاهقة لا يسكنها إلا اثنان أو ثلاثة؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى أرصدتنا في البنوك الربوية؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى نساءنا وأطفالنا يتمايلون مع المعازف والألحان؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى ليلنا أمام الشاشات والقنوات؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى الملاعب تغط بالبنين والشباب؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى عباد البقر يهدمون مساجدنا؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى عباد الصليب ينتهكون حرماتنا وأعراضنا؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى أحفاد القردة والخنازير يتلاعبون بنا؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما وصلنا إلى هذه الحال إلا من غفلتنا، وما أوتينا من قبل قوة القوم، ولكن أوتينا من ضعفنا، ومن غفلتنا، أما آن الأوان أن نسمع المواعظ فنتعظ، ونسمع النصائح فنتغير ونتبدل.
أما آن أن نتذكر أن الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، ولا يعرف صيفاً ولا شتاء، ولا ليلاً ولا نهاراً.
أما آن أن نعرف أنه ينتظر كلاً منا شدائد وأهوال، وفي القبر ضمة وسؤال.
إنها ثلاثة أسئلة ستطرح على كل واحد منا: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هو ذلك الرجل الذي بعث فيكم؟ ولا تظن أن قضية الإجابة بالقضية السهلة، فإنه لن يستطيع أهل الغفلة الإجابة، ولن يجيب إلا أصحاب القلوب الحية ثباتاً وتثبيتاً من الله جل في علاه، قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:٢٧].