[موقف الأنصار من القتال في بدر]
تقدم ذكر موقف المهاجرين والذين كانوا أقل من ثلث الجيش، فقد كانوا نحو ثلاث وثمانين رجلاً تقريباً، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن المهاجرين ما خرجوا من ديارهم وتركوا أموالهم إلا وعندهم أتم الاستعداد ليعطوا ويبذلوا من أجل نصرة دينهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعرف من هذه المجلس موقف الأنصار، فإن ثقل المعركة سيقع على كواهلهم، فقد كانوا أكثر من مائتين وأربعين رجلاً.
ثم هم في بيعة العقبة -التي تسمى بيعة الحرب- بايعوا على النصرة داخل المدينة، وهم الآن خارج المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يلزمهم بشيء لم يتفق معهم عليه؛ ولذلك أعاد نفس الكلام بعد أن تكلم المهاجرون وقال: (أشيروا علي أيها الناس؟).
فتكلم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه حامل لواء كتيبة الأنصار في ذلك اليوم، وسيد الأوس والخزرج الذي اهتز له عرش الرحمن عند وفاته.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات سعد بن معاذ: (لقد نزل إلى الأرض سبعون ألف ملك يشيعون سعداً ما نزلوا إلى الأرض من قبل) لماذا يا إخوان؟! لأن الأرض تحبهم وكذلك أهل السماء، لماذا سخرت لهم البحار والجبال والأنهار؟ لأنهم سخروا الحياة لله، قال سعد: كأنك تعنينا يا رسول الله؟ قال: (أجل)، فأعلن القائد الأنصاري موافقة الأنصار المسبقة بدون تردد، وأعلن التصميم الصادق على ملاقاة جيش العدو مهما كانت النتائج، فقال مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: لقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك العهود والمواثيق، فامض بنا لما أردت يا رسول الله! فصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وعاد من شئت، وقارب من شئت -وانظر إلى عقيدة البراء والولاء في حياتهم- وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، ووالله للذي أخذته أحب إلينا مما تركت، والذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا البحر لخضناه أمامك ما تخلف منا رجل واحد، ووالله لو أمرتنا أن نرمي بأنفسنا من أعالي الجبال لرميناها ما تخلف منا رجل واحد، فامض لما أمرك الله، وما نكره أن تلقى بنا عدوك غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
ولاحظوا الفرق بين خروج هذا الجيش وخروج ذلك الجيش، فهذا يقول لله وللرسول: سمعاً وطاعة وبذلاً من أجل الدين، وأولئك يقولون: نشرب الخمور، وننحر الجزور، ونسمع الأغاني والألحان حتى تهابنا العرب كما قال الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:٤٧]، ماذا يريدون اليوم؟ هل يريدون تحرير الشعوب كما يقولون؟! إذاً: لماذا يقتل الأطفال والنساء إن كان مقصدهم تحرير الشعوب وتحرير الأمم.
فسر بنا على بركة الله، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يتهلل وهو يرى أثر الإيمان، وأثر القرآن، وأثر الثقة بنصر الله جل في علاه؟! وكانت آخر ابتسامة أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في صلاة الفجر، في يوم الإثنين، في اليوم الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كشف الستار من بيت عائشة فإذا المسلمون في صلاة الفجر صفوف متراصون، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاهم آخر ابتسامة في ذلك اليوم.
يقول الصحابة: حين رأيناه ظننا أنه سيخرج للصلاة معنا، وما رأينا وجهه أجمل من تلك اللحظة التي تبسم فيها، تبسم؛ لأن الأمة على الجادة، لأن الأمة تصلي الفجر، ولأن الأمة ما اتصفت بالنفاق، بل صفت أقدامها أمام الله جل في علاه، فكيف لا يتبسم إذاً؟! وهنا تهلل وجهه في ذلك اليوم حين رأى استعداد هؤلاء وهؤلاء لملاقاة الكفار مهما كانت النتائج، ومهما كانت الآثار، تغيرت الظروف لكن الرجال ما تغيروا! تغيرت الظروف لأنهم خرجوا يريدون العير، فإذا بهم أمام النفير، فإذا استعدادهم الذي أبدوه للقتال كان أعظم من استعدادهم للخروج للقافلة: امض لما أراد الله، فوالله ما يتخلف منا رجل واحد، ويوم أمرهم للخروج إلى القافلة تخلف من تخلف، لأنهم لم يخرجوا للدنيا، ويوم أن صارت المواجهة قتالاً وتغيرت الظروف والأحوال لم يتغير الرجال، فلماذا تغير رجال اليوم؟! لماذا تخلف الأبطال اليوم؟! ولقد صدق من قال: إذا أردنا النصر فلنصلي الفجر، فحتى ننتصر على الأعداء لا بد أن نربي الأبناء، وحتى ننتصر على الآخرين فلا بد أن ننتصر على أنفسنا أولاً، ننتصر على شهواتنا، ننتصر على رغباتنا، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لا بد أن نقر ونعترف بذنوبنا وتقصيرنا.
تقول للناس اليوم: توبوا، فيقولون: لماذا نتوب؟ والمنكرات في حياتهم في كل مكان، لكنهم لا يريدون الاعتراف بالذنب، والذي لا يعترف بالذنب لن يتوب، ولا بد أن نقر ونعترف أيضاً أن ما يحدث للمسلمين من مصائب هو بسبب تقصيرنا نحن، فإخواننا يقتلون صغاراً وكباراً ونحن نجلس أمام الشاشات نلهو ونلعب! أيتها المسلمة! لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لـ عمر: هيا بنا نزور أم أيمن، واسمعي بارك الله فيك! إلى الهم الذي تحمله المؤمنة الصادقة، لما جاءها أبو بكر وعمر قالا لها: يا أم أيمن! أما تدرين أن ما عند الله خيراً لرسوله؟ قالت: بلى، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكنني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فالمرأة تحمل قضية وهماً، فأين هو همي وهمك؟! وماذا هو همك أنت اليوم؟! قال الناظم في ذلك: يا أم أيمن قد بكيت وإننا نلهو ونمجن دون معرفة الأدب لم تبصري وضع الحديث ولا الكذب لم تشهدي بعض المعازف والطرب لم تشهدي شرب الخمور ولا الزنا لم تلحظي ما قد أتانا من عطب لم تشهدي فرق الضلالة والهوى لولا مماتك لرأيت من العجب لم تشهدي فعل العدو وصحبهم ها نحن نجثو من يهود على الركب واحر قلبي من تمزق أمتي أضحت أمورك أمتي! مثل اللعب تالله ما عرف البكاء سراتنا ومع التباكي لا وشائج أو نسب بكت لانقطاع الوحي أما يبكيك ما يحدث هنا وهناك؟ أما يبكيك انتهاك الأعراض، وإراقة الدماء؟ فقد أصبحت دماؤنا أرخص الدماء على وجه الأرض، فهل هذا بذنوبهم أم بذنوبنا؟ وهل هو بتقصيرهم أم بتقصيرنا؟ ما تبسم صلاح الدين قط، ناهيك عن أن يضحك، فلما قيل له في ذلك قال: كيف أتبسم والأقصى في أيدي الصليبيين؟! ها هو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويحنا ماذا أصاب شبابنا أو ما لنا سعد ولا مقداد ولما طلب عمرو من عمر المدد أرسل له أربعة فقط، قال له: أرسلت لك أربعة من الرجال، الرجل منهم بألف! وأرسل المقداد يوماً إلى أبي عبيدة في الشام وقال له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جيش فيه المقداد لا يهزم بإذن الله).
هذا واحد يا إخوان! ونحن ليس عندنا أحد مثل هؤلاء، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:١١]، فلا نريد عواطف أو دموعاً، بل نريد عملاً وامتثالاً لأوامر الله، نريد أن نصدق في أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، ونريد أن نصدق في توحيد صفوفنا لمواجهة الأعداء.