[من آداب الدعاء]
من آداب الدعاء: إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها فليس لك إلا الدعاء واللجوء إلى الله، بعد أن تقدمي التوبة من الذنوب، فإن الزلل يوجب العقوبة، فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب، فإذا تبت ودعوت ولم تري للإجابة أثراً فتفقدي أمرك، فربما كانت التوبة ما صحت لماذا؟ لأن شروط التوبة أختي الحبيبة! بعض الناس قد يقوم بأحدها، ولا يأتي بالأركان الباقية.
وأعظم شروط التوبة: الندم، والإقلاع، والعزم، فقد تعزمين أو تقلعين ولكنك لا تندمين، فالتوبة حينئذٍ ناقصة، وقد تندمين وتعزمين ولا تقلعين فالتوبة ناقصة أيضاً.
إذاً: فلا بد من اكتمال شروط التوبة، صححي التوبة ثم ادعي ولا تملي، فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، لا في إجابتها، فإذا جاء إبليس وقال: كم تدعين ولا ترين إجابة؟! فقولي: أنا أتعبد الله بالدعاء، وأنا موقنة أن الجواب حاصل، غير أنه ربما كان في تأخيره بعض المصالح، فهو يجيء في الوقت المناسب كما قال الله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠]، ولو لم تحصل الإجابة حصل التعبد، والذل، والخضوع لله.
فإياك ثم إياك أن تسألي شيئاً إلا وتقرنيه بسؤال الخيرة، فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك، فإن كنا أمرنا بالمشاورة في أمور الدنيا، فكيف لا نسأل الله الخير في جميع أمورنا، وهو أعلم بما ينفعنا ويضرنا.
توسلي إلى الله به فقولي: يا محسناً! إلي قبل أن أطلبه، لا تخيب أملي فيك وأنا أطلبك، فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك.
ومن آداب الدعاء: الافتقار إلى الله، بإعلان الحاجة، وبيان الذل والخضوع له سبحانه، قولي: يا رب! ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، أمتك، وسائلتك، ومؤملتك لا ملجأ لها ولا منجى لها منك إلا إليك، أنت معاذها، وملاذها.
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره يا من هو أرحم من الوالد بولده، والوالدة بولدها، من ذا الذي دعاك فرددته، وأتاك فطردته، يا قريباً ممن دعاه، يا حليماً على من عصاه، يا غنياً عمن تناساه، أنت القائل في الحديث القدسي على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ولا رجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي).
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في مخها والمخ في تلك العظام النحل اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول اسمعي افتقار محمد صلى الله عليه وسلم إلى مولاه في قوله: (إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي لا أبالي، ولكن رحمتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي سخطك أو ينزل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
اسمعي نبي الله موسى عليه السلام وهو يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:٢٤]، اسمعي نبي الله يعقوب عليه السلام وهو يقول: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦]، اسمعي نبي الله يوسف عليه السلام وهو يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:٣٣].
أما دعاه زكريا نداء خفياً فقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:٤ - ٦] فيأتيه
الجواب
{ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:٧].
اسمعي يا رعاك الله! عندما دعاه أيوب وناداه بقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣] فقال سبحانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:٨٤].
ناداه ذا النون في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، فسمع نداءه من فوق سبع سماوات قال سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:٨٧ - ٨٨].
رمي الخليل في النار فجاءه جبريل فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أما لك فلا، أما لله فنعم، فحسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:٦٩ - ٧٠].
دخل موسى وهارون عليهما السلام على فرعون فقالا: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٥ - ٤٦].
فليس أحب إلى الله من الدعاء والانكسار والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له، فلله ما أحلى أن يقول العبد وكذا الأمة: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وغناك وفقري، إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي -أو- وإماؤك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك دمعه وعينه، وذل لك قلبه.
تأملي ولا تيأسي من روح الله، وإنما يظهر الإيمان عند الابتلاء، فهو يبالغ والأمة تبالغ في الدعاء، ولا ترى أثراً للإجابة ولا يتغير أملها ولا رجاؤها ولو قويت أسباب اليأس؛ لعلمها أن الحق أعلم بالمصالح، أو لأن المراد منها الصبر والإيمان، فإنه لم يحكم عليها بذلك إلا وهو يريد من قلبها التسليم؛ لينظر كيف تصبرين، أو يريد كثرة اللجوء والدعاء والإلحاح عليه.
فأما من تريد تعجيل الإجابة وتتذمر إن لم يستجب لها فتلك ضعيفة الإيمان، ترى أن لها حقاً في الإجابة، وكأنها تتقاضى أجرة العمل، أما سمعتي قصة يعقوب عليه السلام بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لم يتغير، فلما زيد في بلائه وضم إلى فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله، وقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:٨٣]، وقد كشف الله هذا المعنى في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤]، وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠]، ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسل والمؤمنين إلا بعد طول البلاء، وقرب اليأس من الفرج، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، قيل له: وما يستعجل؟ قال: يقول دعوت فلم يستجب لي).
فإياك إياك! أن تستطيلي زمن البلاء، وتضجري من كثرة الدعاء، فإنك مبتلاة بالبلاء متعبدة بالصبر والدعاء، ولا تيأسي من روح الله وإن طال البلاء.