للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما أهون ما بذلوا في عظيم ما نالوا]

الوقفة الرابعة: ما أهون ما بذلوا في عظيم ما نالوا! قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة من نساء الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحاً, ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).

الله أكبر! إذا كان النصيف خيراً من الدنيا وما فيها، فما بالك بربة النصيف وصاحبة الخمار.

أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: (إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء، إذا مشت مشى حولها سبعون ألف وصيف عن يمينها، وعن يسارها كذلك، تنادي وتقول: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟).

فأبشروا يا رجال الحسبة! وأبشر يا من تغار على هذا الدين!.

وهذه همسة أهمسها في أذنيك أيتها الغالية! هل تأملت في أوصاف الحور العين وما ذكر من حسنهن وجمالهن؟! أقول: فأنت أفضل من ذلك في الجنة، فضلت على الحور العين بالصلاة والقيام فكل صفة للحوراء أنت أولى بها، فاعملي مع العاملين.

قال عطاء السلمي لـ مالك بن دينار: يا أبا يحيى شوِّقنا، قال يا عطاء: إن في الجنة حوراء يتباهى أهل الجنة بحسنها لولا أن الله كتب على أهل الجنة ألا يموتوا لماتوا من حسنها وجمالها، فلم يزل عطاء كمداً حزيناً من قول مالك.

عن يزيد الرقاشي قال: بلغني أن نوراً سطع في الجنة لم يبق موضع في الجنة إلا دخل من ذلك النور فيه، فقيل: ما هذا؟ قيل: حوراء ضحكت لزوجها، قال صالح المري: فشهق رجل من ناحية المسجد فلم يزل يشهق حتى مات في مكانه.

ولقد روينا أن برقاً ساطعاً يبدو فيسأل عنه من بجنان فيقال هذا ضوء ثغر ضاحك في الجنة العليا كما ترياني فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت من ضحكها! وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها! وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة، وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة المخاصرة! وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجن قتل المؤمن المتحيز إن طال لم يملل وإن هي حدثت ود المحدث أنها لم توجز وإن غنت فيا لذة الأبصار والأسماع، وإن آنست وأمتعت فيا حبذا تلك المؤانسة والإمتاع، وإن قبلت فلا شيء أشهى من ذلك التقبيل، وإن نولت فلا ألذ ولا أطيب من ذلك التنويل.

هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه كما ترى الشمس في الظهيرة، والقمر ليلة البدر، فذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد.

فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة! إن ربكم تعالى يستزيركم فحي على زيارته! فيقولون: سمعاً وطاعة! وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا أتوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور, ومنابر من لؤلؤ, ومنابر من زبرجد, ومنابر من ذهب, ومنابر من فضة، وجلس أدناهم - وحاشاهم أن يكون فيهم دني - جلس أدناهم على كثبان المسك ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا, حتى إذا استقرت بهم مجالسهم, واطمأنت بهم أماكنهم, نادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟! ويثقل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة؟! ويزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور, فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جلا جلاله, وتقدست أسماؤه, قد أشرق عليهم من فوقهم, وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم! فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام! فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم, ويقول: يا أهل الجنة! ويكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ هذا يوم المزيد، سلوني فهذا يوم المزيد.

فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا! فيقول: لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي, سلوني هذا يوم المزيد! فيجتمعون على كلمة واحدة: أن ربنا أرنا وجهك ننظر إليه, فيكشف لهم الرب جلا جلاله الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لو أنه تعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، فلا يبق في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله تعالى محاضرة وناظره مناظرة, حتى أنه يقول له: يا فلان! أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ - يذكره ببعض غدراته في الدنيا - فيقول: يا رب! ألم تغفر لي؟ فيقول: لو لم أغفر لك لما بلغت منزلتك هذه.

فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا لذة الأنظار بتلك المناظرة، ويا قرة عيون الأبرار في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة، قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣].

قال يزيد الرقاشي لـ حبيب العجمي: ما أعلم شيئاً من نعيم الجنة وسرورها ألذ عند العابدين ولا أقر لعيونهم من النظر إلى ذي الكبرياء العظيم, إذا رفعت الحجب وتجلى لهم الكريم, فصاح حبيب عند ذلك وخر مغشياً عليه.

أقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١].

اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.

اسمع وقل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦].

أخرج مسلم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري في السماء, قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده رجاله آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، قال الله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:٢٠]).

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.