للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفكر في اليوم الآخر والاستعداد لذلك]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: لقد كانت هذه المحاضرة عن الرفيق الذي كان يسير معي على الطريق ثم حاد عن الطريق إما لشهوة أو لشبهة، فلما أخبرت بأن العنوان حدث فيه بعض التغيير توقفت عن التحضير في آخر الصفحات؛ لعلي أن أستدرك الموضوع الجديد، ثم لا هذا أكملت ولا ذاك أدركت، فجئتكم الليلة ببضاعة مزجاة، وجئتكم بموضوع آخر، لكن والله الذي لا إله إلا هو! نحن في أمس الحاجة إلى مثل هذا الموضوع، وأردت أن يكون الموضوع في هذه الليلة حديث من القلب إلى القلب، وهو موعظة ذكرنا بها القرآن في مواضع عدة، وأعظم المواعظ مواعظ القرآن، وأعظم الكلمات كلمات القرآن، وأعظم الحروف حروف الرحمن جل في علاه، لذلك أردت أن يكون أول لقاء بيني وبين أهل عنيزة كلمات تنطلق من القرآن.

إن الحياة حقيقة هي حياة القلوب وليست حياة الأبدان، فالماء يحيي الأرض، وذكر الله يحيي القلوب، فقد رأيتم اليوم عندما نزل المطر كيف تغير واقع الأرض، ورأيتم كيف أن الأرض هشت وبشت فرحاً باستقبال الحياة، فكذلك القلوب لا تحيا إلا بذكر علام الغيوب، قال الله: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:٥]، فهذا يدل على أمور عظيمة، ثم إن الله في سياق هذه الآيات قال: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:٥ - ٧]، فنزول الماء، وإحياء الأرض دليل على قدرة الباري جل في علاه على إحياء الناس بعد موتهم، وبعثهم ونشرهم ثم حسابهم، ثم يتقرر المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، وهي قضية لابد أن تشغل كل واحد منا، فمدار صفحات القرآن على هذه القضية، فما أرسل الله الرسل، ولا أنزل الكتب إلا ليتفكر الناس في ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم الذي سيتقرر فيه المصير والمآل.

إن القلوب إذا حييت استعدت للقاء علام الغيوب، وإذا نسيت غفلت وقست وابتعدت عن صراط الله المستقيم، قال الله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٢]، واليوم الناس يشكون من هذا المرض العظيم، فيشكون من قسوة في قلوبهم، والسبب هو الابتعاد عن ذكر الله جل في علاه، والابتعاد عن النظر في كتاب الله جل في علاه، والابتعاد عما يذكرنا بلقاء الله جل في علاه، فترى مدار أحاديثنا في مجالسنا هو عن الدنيا وما فيها، ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة اشترط على جلسائه شروطاً ثلاثة، فقال: من أراد أن يجلس في مجلسي فأنا أشترط عليه شروطاً ثلاثة -وهذه الشروط ليت أنّا نشترطها في مجالسنا- فقال: أما الشرط الأول: ألا تتحدثوا في مجلسي عن الدنيا أبداً.

وأما الشرط الثاني: ألا تغتابوا عندي أحداً.

وأما الشرط الثالث: ألا تمدحوا في مجلسي أحداً.

وهذا لأن الإكثار من ذكر الدنيا يقسي القلوب، وغيبة الآخرين كبيرة من الكبائر، وكثرة المدح تميت القلب، وتنسيه ما أعد الله لأهل النعيم، وما أعد الله لأهل الجحيم، فهذه الشروط الثلاثة ليت أنّا نشترطها في مجالسنا، فبذكر الله تحيا القلوب كما تحيا الأرض إذا نزل عليها المطر، وتحيا القلوب أيضاً بذكر سير الأقوام الذين ساروا على ذلك الطريق، فقد أحيا الله بذكرهم أقواماً، فلله در أقوام بذكرهم يحيا أقوام! وتباً لأقوام بذكرهم يموت أقوام، فقد مضوا منذ مئات السنين ولا زالت المنابر تسطع بأسمائهم، وإذا ذُكروا قلنا: لا إله إلا الله، وإذا ذكرت أخبارهم تأدبنا بها واقتدينا بصنع أولئك الرجال، ووالله الذي لا إله إلا هو! لولا أن كتب السِّيَر نقلت لنا أخباراً صحيحة عن أولئك ما كنا نصدق أن أولئك بشر، فقد وصلوا إلى درجة عالية، وزكاهم الله ورضي عنهم وهم يسيرون على الأرض، ومنهم من قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخبرني أنه يحبك، وأنا ضمين بحبك)، ومنهم من اهتز له عرش الرحمن عند وفاته، ومنهم من غسلته الملائكة بين السماء والأرض، ومنهم من كلمه الله كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فما وصلوا إلى تلك الدرجات العالية إلا بقلوب حية معلقة بما عند الله جل في علاه، فإذا أستأنس أهل الدنيا بالدرهم والدينار استأنسوا بما عند الله جل في علاه، فيتردد على مسامعهم وهم يرون الناس يلهون في دنياهم: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:٣٦].

إن الإيمان هو الحياة الحقيقية، ولا حياة بدون إيمان، فما هو الدافع لي ولك أن نجلس في هذا المسجد أليس هو الإيمان؟ وما هو الدافع لي ولك على فعل الطاعات أليس هو الإيمان؟ وفي المقابل ما هو الرادع لي ولك عن فعل المعاصي والمنكرات أليس هو الإيمان؟ إنه إيمان بما أعد الله للطائعين، والإيمان بما أعد الله للعصاة والمخالفين.

إن الذي يجعل للحياة قيمة هو الإيمان، وبه يتفاوت الناس في دنياهم وأخراهم، لذلك كان إبراهيم عليه السلام في إيمانه أمة، ورجح إيمان أبي بكر الصديق إيمان أمة، ولم يكن بأكثر القوم صلاة ولا قياماً، لكنه كان أكثرهم ثقة وتصديقاً بالله رب العالمين، لذلك كانت حياته غير حياة الآخرين، فالذي يجعل لحياتي وحياتك قيمة هو الإيمان، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:١٢٢]، فتأمل في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، أما كان يأكل، ويشرب، ويلبس، ويغدو، ويروح؟ بلى، لكن ليست هذه هي الحياة، لذلك قال أحد المربين لأحد أبنائه: يا بني! لا يكن همك المأكل والمشرب والملبس والمنكح، فهذا هم النفس، فأين هم القلب؟ إن همك هو ما أهمك، فليكن همك الله والدار الآخرة، فمن جعل الهموم هماً واحداً -يعني: هم الآخرة- كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة، أتريد الدنيا؟ فأنا أدلك على الطريق حتى لا تخسر الدنيا والآخرة، (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في صدره، وأتته الدنيا وهي راغمة)، والعكس بالعكس، (ومن أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قسم الله له) فالذي يجعل لحياتي وحياتك قيمة هو أن يكون لها هدف، فإذا تحدد الهدف تحدد الطريق.

اعلم بارك الله فيك أن الطرق نوعان: النوع الأولى: طرق صعبة فيها مصاعب وآلام وامتحانات وابتلاءات، لكنها توصلك إلى المكان الذي تريد أن تصل إليه، والنوع الآخر: طرق معبدة مذللة فيها شهوات واستراحات وغير ذلك، لكنها لا توصلك إلى المكان الذي تريد أن تصل إليه، فلا شك أنك ستأخذ الطريق الصعب رغم صعوبته؛ لأنك تريد أن تصل، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره)، والحياة امتحان وابتلاء؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، فالذي يحيي القلوب هو ذكر علام الغيوب، فالنظر في آياته، والتدبر في كلماته يحيي القلب، ومصيبتنا أننا لا نعرف القرآن إلا في رمضان، فبقدر ما تعطي القرآن القرآن يعطيك، وبقدر ما تقبل على كتاب الله يقبل الله عليك، وإذا أردت أن تعرف قيمتك عند الله فانظر إلى قيمة كلام الرحمن في صدرك، وفي حياتك، وفي كل شأن من شئون حياتك، فالمطلوب منا عند قراءة القرآن أن نفتح القلوب قبل أن نفتح الآذان، لذلك سيتردد على مسامعك الليلة آيات وآيات، فأسأل الله أن تجد هذه الآيات مكاناً في قلبي وفي قلبك، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم.

إن من أركان الإيمان، وعقائد الإسلام: الإيمان بالله وباليوم الآخر، والضابط الحقيقي لصفة الإنسان هو إيمانه بذلك اليوم، فلا يضبط سلوك البشر في دنياهم إلا إيمانهم بذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؛ ليجزي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته، لذلك حين سأل أحدهم سفيان فقال: كم مضى من عمرك؟ قال: ستون سنة، قال: ستون سنة وأنت في سفر إلى الله، أوشكت أن تصل، قال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: أتعرف معناها؟ فإن معناها أنك لله عبد وأنك إليه راجع، قال سفيان: ومن علم أنه لله عبد فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فماذا أعد للجواب؟ {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:١٠٩]، فالضابط الحقيقي لسلوك البشر كلهم أقصاهم وأدناهم هو الإيمان بالله وباليوم الآخر، فإذا كنت مدير شركة أو مؤسسة من المؤسسات فإنك لا تستطيع تراقب كل الموظفين، ولا تستطيع أن تراقب كل واحد في روحته ومجيئه، فما الذي يجعل هذا يبدع في عمله؟ وما الذي يجعل هذا يخلص في أدائه؟ وما الذي يجعل هذا يعطي الحقوق ويمتنع عن المظالم؟ إنه استشعاره باليوم الآخر، وإنه استشعار رقابة الله في كل مكان، كان ابن عمر في مرة من المرات في صحراء، فإذا براعي غنم يرعى أغنامه ويرتاد بها أحسن المراعي، فالمالك لا يراه، لكن الله جل في علاه يراه، وملك السماوات والأرض يراه في كل خطوة، وفي كل مكان يغدوه أو يروحه.

إن هذا الأمر ينقصنا اليوم وهو: أننا نستشعر الرقابة في كل مكان، وأن نستشعر أن الله يرانا في كل مكان، فهو يرى ما في السماء وما في الأرض، {