عبد الله! أعلم أنه لا يصنع الرجال إلا الإيمان، وعلى قدر الإيمان في القلوب تكون ثمراته، اسمع ماذا صنع الإيمان بالرجال يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ثلاث من كن فيه ذاق بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، ومعنى هذا الكلام أنه إذا أتاك الأمر فعليك أن تفعل، وإذا جاءك نداء الله ألا تفعل فعليك ألا تفعل، وقد كانت التكاليف في السابق شديدة على الرجال ومع هذا ما تخلف منهم رجل واحد، واليوم التكاليف سهلة، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:١٨٥]، فهم أقاموا البنيان، وإقامة البنيان أصعب شيء، فتعالوا نستمر في بناء ذلك البنيان الذي بناه أولئك الرجال بتضحياتهم، وبدمائهم، وبأوقاتهم، وبأموالهم وبكل ما يملكون.
فهذا رجل واحد يناديه النبي صلى الله عليه وسلم يقول له:(اذهب إلى مكة وائتني برأس خالد الهذلي)، خالد الهذلي رجل كان يجمع الرجال حتى يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجندي واحد من جنود الإيمان، ليس بكتيبة ولا سرية ولا بجيش عرمرم، وإنما برجل واحد وقال له:(اذهب إلى مكة وائتني برأس خالد الهذلي)، فما قال الجندي: لا أستطيع، أو العملية شاقة ومتعبة وخطيرة، لا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}[النور:٥١]، فلا يختار الجندي إذا أمره القائد، فقال: إني لا أعرف الرجل -أي: ما رأيته قط، واسمع علامات الرجل- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(علامة الرجل أنك إذا رأيته تهابه)، وهنا زادت القضية خطورة؛ فالرجل خطر، وكانت العرب تقول عن خالد الهذلي: إنه رجل بألف رجل، ومع هذا ما قال الجندي: أعذرني، وما قال: ابحث عن غيري، أو مدّني بفلان أو فلان، وإنما قال: سمعاً وطاعة، وخرج حتى وصل إلى عرفات قرب مكة حيث أقام الرجل هناك معسكره يجمع الشباب والرجال حتى يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه وقال له: أنا أريد أن أنضم إلى الرجال الذين معك حتى نقتل محمداً -صلى الله عليه وسلم- فآواه وقربه وأدناه حتى اطمئن إليه، ثم سار معه خلف الخيام يتباحثون في القضية والموضوع، حتى إذا ابتعدوا عن أعين الناس استل عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه سيفه واجتز رقبة الرجل وعاد يخبر القائد أن المهمة قد تمت، وكان الوحي قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما إن دخل الجندي على القائد حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(أفلح الوجه، خذ عصاتي توكأ عليها أعرفك بها يوم القيامة، وقليل هم المتوكئون)، فلما احتضر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه أمر بتلك العصا أن تكفن معه في كفنه؛ كي تكون شاهدة ودليلاً على أنه أطاع الله وأطاع الرسول.
فانظر لقد كانت التكاليف صعبة وشاقة على الرجال ومع ذلك ما تخلف منهم رجل واحد.
وفي يوم بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثهم ويحرضهم على القتال، ويرفع شعار المعركة ويقول لهم:(قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، فيتعجب الرجل ويتأمل ويتفكر ويقول: جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال:(يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ ماذا بيني وبينها؟ قال: أن تقاتل في سبيل الله فتقتل، قال: ادعُ الله أن أكون من أهلها، قال: أنت من أهلها، وكان في يده تمرات فقال: بخ بخ، وقذفها وانطلق وهو يقول: والله! إنها لحياة طويلة إن أنا عشت حتى آكل هذه التمرات)، ولسان حالهم: ركضاً إلى الله بغير زادِ غير التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد وكل عمل عرضة للنفادِ إلا التقى والبر والرشاد.
(ادع الله يا رسول الله! أن أكون من أهلها قال: أنت من أهلها، ثم ينطلق ويبارز القوم ويقاتلهم حتى يسقط قتيلاً رضي الله عنه وأرضاه).
فما الذي دفع أولئك الرجال إلى تلك الأفعال؟! إنه الإيمان يوم بنوا البنيان حافظوا على البنيان حتى وصل إلى تمامه، ونحن اليوم نبني ونهدم، فلم نستشعر الإيمان وحلاوته، واسمع ماذا كانوا يقولون، كانوا يقولون: إذا لم تستطع قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم.
والله! إننا في حرمان لا يعلمه إلا الله، وذلك يوم لم نستشعر الإيمان وحلاوته ولذته، والأنس بالله، والقرب من الله تبارك وتعالى، فإذا أنس أهل الدنيا بالدنيا فليأنس أهل الإيمان بالله، وإذا أنس أهل الدرهم والدينار بمالهم فليأنس أهل الإيمان بالله تبارك وتعالى.
إنه الإيمان الذي يصنع الرجال (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، أي: تبذل الغالي والنفيس للذي أعطاك، ووهب وسخر لك كل شيء، فهكذا تكون حياة أهل الإيمان.