للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة توبة الشاب حسان]

فمن هذه القصص: أن جماعة كانوا على ضلالة، وكانوا يتعاونون على الإثم والعدوان، وينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر، حتى منَّ الله على واحد منهم بالاستقامة، فاستقام وصلح حاله، فأراد لصاحبيه الهداية والاستقامة، فاجتهد عليهما حتى هدى الله الثاني، ثم الثالث، فبعد أن كانوا مفاتيح شر أصبحوا مفاتيحاً للخير، وتعاهدوا فيما بينهم أن يعوضوا الأيام الماضية في المعاصي والمنكرات، وأن يستغلوا ما بقي من العمر في الطاعات والقربات، فاتفقوا فيما بينهم أن يجتمعوا كل يوم قبيل الفجر بساعة حين يتنزل الرحمن نزولاً يليق بجلاله، فينادي: هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:١ - ٢]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١ - ٢]، فالله تعالى يعطي الفرص مرات ومرات، والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فقد كان الثلاثة مجتمعين على المعاصي، ثم بدل الله حالهم واجتمعوا على الطاعات، وقرروا فيما بينهم أن يجتمعوا كل يوم قبيل الفجر بساعة ثم ينطلقون إلى مسجد من المساجد، فيصلون فيه إما فراداً وإما جماعة ما شاء الله أن يصلوا، واستمروا على هذه الحال مدة طويلة، وفي يوم من الأيام تأخر الذي كان عليه الدور أن يمر على الشباب حتى لم يبق على صلاة الفجر إلا نصف ساعة، فلما جاءهم وقفت بجانبهم سيارة تكاد تنفجر من صوت الموسيقى والألحان، وما كأن هذا الوقت ساعة مباركة وساعة استجابة، فأشار إليه الأول فلم يستجب لهم، وأشار إليه الثاني فلم يعطهم بالاً، وأشار إليه الثالث فلم يلتفت إليهم، فانطلق بسرعة حين انطلقت الإشارة، فقالوا فيما بينهم: ما رأيكم لو نسعى في هداية هذا الشاب؟ فننطلق خلفه عل الله يكتب هدايته في هذه الليلة المباركة؟ فأخذوا يلحون على الله بالدعاء أن يهدي هذا الشاب، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)، وأي نعمه أعظم من نعمة الهداية والاستقامة، فانطلقوا خلفه، وبدءوا يشيرون إليه بالأنوار العالية عله يتوقف، فظن صاحبنا أن القضية عراك، وظن أنها قصة تحدٍ في ساعات الليل الأخيرة، فتوقف متحدياً، ونزل من السيارة، وكان شاباً طويل القامة، عريض المنكبين، مفتول العضلات، فقال: ماذا تريدون؟! فابتسموا في وجهه وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال: من أراد العراك لا يبدأ بالسلام، وهؤلاء لا يريدون العراك، قال: ماذا تريدون؟ قالوا: أما تعلم في أي ساعة أنت الآن؟ الساعة الآن قبيل الفجر، وهي ساعة السحر، وهي من أعظم الساعات، ولا يرد الله فيها الدعاء، أما عندك حاجة تطلب الله إياها الآن؟ قال: أما تعرفون من أنا؟ أظنكم لا تعرفوني! قالوا: من أنت؟ قال: أنا حسان الذي لم تخلق النار إلا لي! قالوا: اتق الله، فإن باب الرحمة واسع، والرحمن يقبل من أتاه، (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً).

فبدءوا يذكرونه بواسع رحمة الله، وأن الله يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢]، ويقول في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ولا رجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي)، وهو الذي يقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:٧٠]، فالله بابه مفتوح بالليل والنهار، وهو الذي يقبل توبة التائبين، ويغفر ذنوب المذنبين فارتم ببابه، واسأله الرحمة، فأخذ حسان يبكي ويقول: أيقبلني بعد أن أذنبت وفعلت كذا وكذا وكذا؟! فلم يبق باب من أبواب المعاصي إلا دخلته، ولم تبق مصيبة من المصائب إلا ارتكبتها ثم هو يقبلني؟! قالوا: نعم، ويبدل السيئات حسنات، قال: أنا الآن سكران، وأنا الآن على معصية، فاحتضنوه وأخذوه إلى أقرب دار لهم، فاغتسل حسان، وتطيب وتعطر، ولبس أحسن الثياب، ثم انطلق معهم ليشهد أول صلاة منذ سنوات مضت، يقول لهم: لي سنوات لم أعرف لله أمراً ولا نهياً، وسنوات لم أركع لله فيها ركعة واحدة، فاغتسل وتطيب ودخل المسجد، وقد كان حسان على موعد مع الهداية، فانطلق الإمام يقرأ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨]، فأخذ الإمام يقرأ بصوت حنون، ويردد تلك الآيات، ويرغب الناس فيما عند الله جل في علاه، ويبشرهم بجنات النعيم، ثم قرأ الإمام أرجى آية في كتاب الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]، فما إن قرأها الإمام حتى ارتفع الصياح في المسجد، وامتلأت أركانه نحيباً وشهيقاً وبكاءً عالياً، والإمام يقرأ وحسان يزيد في البكاء، فلما انتهى الإمام من صلاته التف حوله المصلون يهنئونه بالتوبة والرجعة والعودة إلى الله، فـ حسان الذي كان يقول: ما خلقت النار إلا لي كان على موعد مع الهداية، وكان ذلك على يد هؤلاء الشباب، فالشباب هم سبب صلاح الشباب، والشباب هم سبب ضياع الشباب.

وبدأ حسان يحكي مأساته: فعلت كذا وفعلت كذا، ولي أب وأم كبيران في السن لم أرهما منذ شهور طويلة، وهما بحاجة إلى أن أكون بجانبهما، فأريد أن أرى أبي، وهو يصلي في المسجد الفلاني، ويمكث في ذلك المسجد حتى شروق الشمس، فانطلقوا به إلى ذلك المكان، فوصلوا وقد أشرقت الشمس وارتفعت، فإذا بشيخ كبير خارج من المسجد، فقال: هذا أبي، هذا أبي، ضعف بصره، وانحنى ظهره، وخطواته متثاقلة، وكم هو هذا الأب بحاجة إلى مثل هذا المفتول العضلات؛ حتى يكون في خدمته ورعايته، فجاءوا فسلموا عليه، وقالوا: معنا حسان، فما أن سمع الأب اسم حسان حتى قال: حسان؟! الله يحرق وجهك بالنار يا حسان! عذبك الله كما عذبتني يا حسان!، فأخذ حسان يبكي وارتمى على الأرض، فقالوا لأبيه: إن حسان قد جاءك تائباً منيباً راجعاً إلى الله، قال الأب: حسان يتوب؟! قالوا: نعم، وقد صلى الفجر في جماعة، وغير الحياة وبدل، وانظم إلى قافلة التائبين والعائدين إلى الله، فأخذ الأب يبكي واحتضن ابنه باكياً وفرحاً بتوبة حسان وعودته إلى ربه جل في علاه، والتف الثلاثة من حولهما يبكون فرحاً بتوبة حسان، وأصبح منظرهما في الشارع مؤثراً، شيخ كبير يحتضن مفتول العضلات ويبكي على هدايته.

ثم انطلقوا إلى المرأة العجوز وأخبروها فأخذت تبكي بكاءً شديداً فرحاً بتوبة حسان، أقول: لله أفرح بتوبة حسان مع أن الله تعالى لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

فانطلق حسان مع التائبين، وأقبل على بيوت الله يتربى في المساجد وفي حلقات القرآن حتى تغير حاله رأساً على عقب، فـ حسان الذي كان يقول: ما خلقت النار إلا لي صار حاله في كل يوم يتبدل، فصار يقبل على الله أكثر من الأيام الماضية، حتى قال في نفسه يوماً: إن عليه من الذنوب والمعاصي ما الله به عليم، ولا يكفر هذا إلا أن أسيل كل قطرة من قطرات دمي رخيصة في سبيل الله، ولا يكفر هذا إلا أن أقدم النفس رخيصة من أجل الذي أعطاني كل شيء، فجاء إلى الأب الشيخ الكبير وقال له: يا أبي! أنا أريد أن أنطلق إلى ساحات الجهاد، وأريد أرفع كلمة الله، وأريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وأريد أن أبذل كل قطرة من قطرات دمي في سبيل الله، قال الأب: يا حسان! لقد فرحنا بعودتك وباستقامتك وتريد أن تحرمنا الآن منك! قال: يا أبي! إن كنتم تحبوني فلا تحولوا بيني وبين الموت والشهادة في سبيل الله، فقال الشيخ الكبير: لك ما أردت إذا وافقت العجوز، فانطلق إليها مقبلاً رأسها وقدميها وقال: أماه! ائذني لي أن أنطلق إلى أرض الجهاد، فإن علي من الذنوب ما لا يكفره إلا أن تسيل كل قطرة من قطرات دمي رخيصة في سبيل الله، فقالت الأم: يا حسان! لقد فرحنا بك وبعودتك واستقامتك أفتتركنا الآن وترحل؟! قال: أماه! إن كنتم تحبوني فدعوني أنطلق، دعوني أنطلق، قالت بشرط: على أن تكون شفيعاً لنا عند الله يوم القيامة.

فعلى ماذا تربي الأمهات الأبناء اليوم؟ هل تربيهم على حب الله ورسوله؟ وهل تربيهم على بذل كل غالٍ ونفيس لأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟! فالله المستعان.

فانطلق حسان إلى ساحات القتال والجهاد، وإلى ساحات