[آيات وتفسير]
أحبتي أهلاً بكم، وأهلاً بالجميع.
إن لله عباداً أسكنهم دار السلام, فأخمصوا البطون عن مطاعم الحرام, وأغمضوا الجفون عن مناظر الحرام، قيدوا الجوارح عن فضول الكلام, وطووا الفرش وقاموا في جوف الظلام، طلبوا الحور الحسان من الحي الذي لا ينام, فلم يزل في نهارهم صيام, وفي ليلهم قيام, حتى أتاهم ملك الموت عليهم السلام.
فارقوا الدنيا على أن يكون ملتقاهم الجنة, سموا وسعوا إلى دار ليس فيها ما يشينها, دار لا يفني فيها ما يزينها، دار لا يزول عزها، ولا يزول تمكينها، قال الله عن تلك الدار وعن ساكنيها: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:١١٨ - ١١٩].
فيا الله ما أتم نعيمهم! وما أعم تكريمهم! وما أفضل حريمهم! وما أكرم كريمهم! وما أظرف حديثهم! منحوا الخلود، افترقوا في الدنيا على أمل أن يكون اللقاء في الجنة.
دفعني إلى الموضوع: تشويق النفوس إلى ما أعده الله لأهل الطاعات, وبيان خسارة أولئك الذين آثروا الشهوات واللذات.
دفعني إلى الموضوع: حتى يزيد الصالح في صلاحه, ويثبت الثابت على استقامته وعلى مكانه فأي فوز أعظم من الفوز بجنات النعيم، ورؤية الرحمن الرحيم؟! قال يحيى بن معاذ: ترك الدنيا شديد, وفوات الجنة أشد, وترك الدنيا هو مهر الجنة.
لي معكم في هذا اللقاء خمس وقفات وخمس تأملات: فالوقفة الأولى: آيات وتفسير.
والوقفة الثانية: من أخبار المشتاقين.
والوقفة الثالثة: الملتقى الجنة.
والوقفة الرابعة: ما أهون ما بذلوا في عظيم ما نالوا! والوقفة الخامسة: الطريق إلى الجنة.
فهيا ننطلق مع الوقفة الأولى: آيات وتفسير: جاء من ذكر الجنة في القرآن الكثير الكثير، تثبيتاً للعاملين, وتشويقاً للمشتاقين، قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:٨ - ١١] قال المفسرون: معنى قوله: ((نَاعِمَةٌ)) أي في نعمة وكرامة، وقوله: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي أنها رضت ثواب عملها الذي كانت تعمله في الدنيا، وقوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي عالية المنازل متفاوتات الدرجات، وقوله: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} أي لا تسمع فيها كلام لغواً أو باطل، كما قال سبحانه: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:٢٥ - ٢٦].
ثم بين ما في تلك الجنان من نعيم فقال سبحانه: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:١٢ - ١٦].
قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} قال: ألواحها من ذهب مكللة بالزبردج والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها فإذا جاءوا وأرادوا الجلوس تواضعت لهم حتى يجلسوا عليها، فإذا قاموا عادت وارتفعت إلى مكانها.
وقوله: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} وهي الأباريق التي لا عري لها موضوعة عندهم، وقوله: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} هي الوسائد مصفوفة إلى جنب بعضها.
وقوله: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} هي الطنافس أي البسط والفرش كثيرة متفرقة هذا بعض ما فيها! أما الحق الذي نعرفه فإن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
اسمع واسمعي عن أدناهم منزلة وأعلاهم منزلة في الجنان: روى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال الله لموسى: هو رجل يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا، فيقول: رضيت رب، فيقول له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة: رضيت رب! فيقول: ولك هذا وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
فيقول: رضيت رب! فما أعلاهم منزلة؟ قال الله: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧]).
فماذا كان عملهم حتى جزاهم ونضر وجوههم وقال عنهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣]، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:٣٨ - ٣٩].
فاسمع رعاك الله! عن تلك الوجوه! وجوه طالما غسلتها الدموع، وجوه طالما أذلها الخشوع، وجوه ظهر عليها الاصفرار من الجوع، وجوه إذا ذكرت أذعنت وذلت، وجوه ألفت الركوع والسجود فما كلت ولا ملت، وجوه توجهت إلى ربها وما نكصت على أعقابها وما تولت، وجوه سارت في الدنيا بين الرجاء والخوف، رجاء دخول الجنان والخوف من النيران، لسان حالهم في دنياهم كما قال ربهم جلا في علاه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:١٠ - ٢٢].
سعيكم مشكور إذ صبرتم على طاعتي سعيكم مشكور إذ صبرتم عن معصيتي سعيكم مشكور إذ صبرتم على الأذى في سبيلي صبرت عن اللذات حتى تولت وألزمت نفسي هجرها فاستمرت وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن توقت تاقت وإلا تسلت اسمعي واسمع بعض من سعيهم كما قال ربهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:١ - ١١].
اللهم اجعلنا ممن يقال لهم يوم العرض الأكبر: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:٣٤].