[قوة الإيمان وضعفه]
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوءتم من الجنة منزلاً، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، ويكشف كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين، ثم أما بعد: فحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم.
نحن في سفر، والسفر طويل، والمسافر في طريقه يحتاج إلى متاع يبلغه وينفعه، وكلما قل المتاع وغلا ثمنه كان أسهل للمسافر في طريقه، وكلما كثر المتاع وقلت قيمته تعب المسافر في طريقه.
إننا نشاهد مشاهدَ ونحن في طريق السفر من الدنيا إلى الآخرة، وكثيراً ما يتكرر أمام أبصارنا مثل هذا المنظر، وهو أن رجلاً يبني بنياناً حتى إذا أوشك البنيان على التمام أخذ المعول وأخذ يضرب في أساس البنيان حتى يسقط هذا البنيان، فماذا نقول عن هذا الرجل؟ إن أقل ما نقوله: إنه غير عاقل، وتتكرر فينا مثل هذه الصور! فمثلاً: إذا أقبل رمضان أقبل الناس على بيوت الله دعاء، وتضرعاً وصياماً وذكراً وقرآناً، وهذا كله زاد يتزود به المسافر في طريقه، حتى إذا انتهى رمضان عاد المسافر إلى ما كان عليه، فيضيع الصيام، ويتخلف عن الصلوات، ويقلل من الذكر والطاعات، حتى يضيع ما بناه طوال شهر كامل {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:٩٢]، ضرب الله مَثَل هذا بامرأة تغزل فبعد أن أوشك الغزل على التمام أخذت تفل خيوط هذا الغزل حتى عاد إلى ما كان عليه.
أحبتي! إن الهدم سهل، ولكن البناء صعب، فالبناء يحتاج إلى مجهود أكبر، لكن بالمقابل في ساعات قليلة تستطيع أن تهدم بنىً كاملاً يتكون من أربعة أدوار أو ستة أدوار، استغرق من الوقت في بنائه شهور أو سنوات، لكن عند هدمه فالعملية لا تستغرق سوى ساعات.
فالصعود إلى القمة صعب وفيه مشقة وتعب ويحتاج إلى عزيمة، ويحتاج إلى جهد وطاقة، لكن النزول من القمة سهل، وهكذا كثير من الناس يبني ويتعب، ثم يغريه الشيطان في دقائق وفي ساعات فيهدم مجداً عظيماً قد بناه، يبني ويتعب ويكدح ثم لشهوة في مرقد أو في مضجع، أو الشهوة في نفس أو في مال يهدم ما قد بناه.
إن القضية قضية إيمان، فيوم بنى هذا الرجل بنيانه كان على إيمان أن {مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:٣٦]، وعندما ضعف إيمانه بدأ يهدم هذا البنيان.
إنما يتفاوت الناس في بنائهم وفي هدمهم بتفاوت الإيمان، فهذا إيمانه قوي وهذا إيمانه ضعيف، والفرق بين فلان وفلان في مقدار الإيمان الذي وقر في صدور أولئك الرجال؛ لأن فلاناً من الناس يستطيع المحافظة على الصلوات الخمس، فيناديه منادي الله في كل حين: حي على الصلاة؛ فلا يتخلف، ودائماً يجيب النداء، وفلان من الناس يناديه المنادي مرات ومرات لكنه مرات يتخلف ومرات يلبي، وكثيراً ما يتخلف، فلماذا هذا قوي في بنائه وهذا ضعيف في بنائه؟ وما هو الفرق؟ إن الفرق هو الإيمان الذي وقر في صدر هذا والذي وقر في صدر ذاك.
إن فلاناً من الناس إذا نام مبكراً، أو نام متأخراً يستيقظ إذا ناداه منادي الله: الصلاة خير من النوم؟ وفلان من الناس يقول: والله لو تضرب مدافع عند رأسي لا أستيقظ! فما هو الفرق؟ ما الذي أيقظ هذا وحركه للإجابة لنداء الله، ولم يتحرك ذاك ولو بصوت المدافع، ما هو الفرق؟ إنه الإيمان، لماذا هذا يبني وهذا يهدم؟ الدافع الحقيقي لهذا الإنسان هو الإيمان، والمحرك الحقيقي لهذا الإنسان ليفعل الطاعات هو الإيمان، فالذي جعل هذا يبني ويحافظ على البنيان هو الإيمان، والذي جعل هذا يتساهل ويهدم هو ضعف الإيمان.
إن الظاهرة اليوم التي عمت وطمت وانتشرت حتى أصبحت مظهراً سائداً عاماً في حياة المسلمين هي ظاهرة ضعف الإيمان، وعلى قدر الإيمان تكون الأعمال، وعلى قدره يصمد هذا البنيان.
إن قوي الإيمان لا يسقط أمام الشهوات واللذات والمغريات مهما كانت، إنه ثابت في المحيا وثابت عند الممات.
ولماذا فلان من الناس عندما يذكّر مرة واحدة يكفيه؟ وآخر عندما يذكر مرات ومرات ومرات فلا يرتدع ولا يستجيب؟ ما هو الفرق؟ إنه فرق الإيمان، فأهل الإيمان من سماتهم أنهم أصحاب قلوب حية، فلا يمر الكلام عليهم مرور الكرام، إنه يقف ويتدبر ويتفكر.
وكم خاطبنا الله بهذا النداء: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، فالقضية مهمة في بناء الإيمان، ولهذا خاطبنا الله بنداء الإيمان، ولما كانت القضية مهمة قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:١٣٦]، فأليسوا أهل إيمان؟ بلى هم أهل إيمان، فلماذا كرر الله الأمر بالإيمان مع أهل الإيمان؟ لأن القضية مهمة، والمعنى: احفظوا الإيمان، وارعوا الإيمان، وتعاهدوا الإيمان.