[سبحان مغير الأحوال]
قال الراوي: لقد تغير صاحبي، نعم تغيير ضحكاته الوقورة التي تصافح أذنيك كنسمات الفجر الندية، وكانت من قبل ضحكات ماجنة مستهترة تصك الآذان وتؤذي المشاعر، ونظراته الخجولة تنم عن طهر وصفاء، وكانت من قبل جريئة وقحة، وكلماته تخرج من فمه بحساب، وكانت من قبل يبعثرها هنا وهناك، فتصيب هذا وتجرح ذاك، ولا يعبئ بذلك ولا يهتم، ووجهه هادئ القسمات تزينه لحية وقورة تحيط به هالة من نور، وكانت ملامحه من قبل تعبر عن الانطلاق وعدم المبالاة والاهتمام، فنظرت إليه وأطلت النظر في وجهه ففهم ما يدور في خاطري، فقال: لعلك تريد أن تسأل ماذا غيرك؟ قلت: نعم هو ذاك، فصورتك التي أذكرها منذ سنوات تختلف عن صورتك الآن، فتنهد قائلاً: سبحان مغير الأحوال، قلت: لابد أن وراء ذلك قصة، قال: نعم، وسأقصها عليك، ثم التفت إلي قائلاً: كنت في سيارتي على طريق ساحلي، وعند أحد الجسور الموصلة إلى أحد الأحياء، فوجئت بصبي صغير يقطع من أمامي الطريق، فارتبكت واختلت عجلة القيادة من يدي ولم أشعر إلا وأنا في أعماق المياه، فرفعت رأسي إلى أعلى لأجد متنفساً ولكن الماء بدأ يغمر السيارة من جميع نواحيها، فمددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح، وهنا تأكدت أني هالك لا محالة، وفي لحظات لعلها ثواني مرت أمامي وفي ذهني صور سريعة متلاحقة، صور من حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون، وتمثل لي الماء شبحاً مخيفاً، وأحاطت بي الظلامات كثيفة، وأحسست أني أهوي إلى أغوار سحيقة مظلمة، فانتابني فزعاً شديداً، فصرخت بصوت مكتوم يا رب! يا رب! {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:٦٢]، ودرت حول نفسي، ماداً ذراعي أطلب النجاة لا من الموت الذي أصبح محققاً، بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت علي الخناق.
وأحسست بقلبي يخفق بشدة، فانتفضت وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة، وأستغفر ربي قبل أن ألقاه، وأحسست أن كل ما حولي يضغط عليّ، وكأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة، فنطقت بالشهادتين، وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ، فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وكالحال تذكرت إن زجاج السيارة الأمامي مكسور، شاء الله أن ينكسر في حادث منذ ثلاثة أيام، فقفزت منه دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، وخرجت من أعماق الماء، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة، فنظرت فإذا بجمع من الناس يقفون على الشاطئ، وكانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني نزل اثنان منهم، وأخرجاني من الماء، فوقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، وغير مصدق أني نجوت من الموت، وأني الآن بين الأحياء.
كنت أتخيل السيارة وهي غارقة في الماء، فأتخيلها تختنق وتموت وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي، لقد تخلصت منها وخرجت، فخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة في الركض بعيداً عن هذا المكان، المكان الذي دفنت فيه الماضي الدنس، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، فدخلت البيت، وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لممثلات وراقصات ومغنيات، فاندفعت إلى الصور أمزقها، ثم ارتميت على سريري أبكي ولأول مرة أبكي.
أحسست بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت لطالما سمعته وتجاهلته، إنه صوت الأذان يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة.
وجلجلت الأذان في كل حي ولكن أين صوت من بلال؟ منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي يقول: فانتفضت واقفاً وتوضأت، وبعد أن أديت الصلاة أعلنت توبتي في المسجد، وجلست أبكي وأدعو الله أن يغفر لي خطيئتي، ومنذ ذلك الحين وأنا كما ترى، قلت: هنيئاً لك الدموع الحارة، وهنيئا لك الانضمام إلى قوافل العائدين.
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:٨].
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).
وقال عمر رضي الله عنه: التوبة النصوح أن يذنب العبد ثم يتوب فلا يعود فيه.
وقال الحسن البصري: التوبة النصوح ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار بأن لا يعود.
وقال يحيى بن معاذ: علامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس في كل همه.
اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين الذين لا خوفاً عليهم ولا هم يحزنون.