[صانعة الأبطال]
أيتها الغالية! أماً كنت أم أختاً! على ماذا نربي أبناءنا اليوم؟! ما هي الأمنيات التي نتمناها لهم؟ أما قال سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:١١]، فوصى الآباء بالأبناء، قبل أن يوصي الآباء بالأبناء.
انظري حولك في واقع الأبناء في هذه الأيام لتعرفي مقدار المأساة، أما أولئك كيف ربوا أبنائهم؟ وماذا علموهم؟ وماذا أعدوهم له؟ اسمعي وافتحي القلب قبل أن تفتحي الأذنين.
جاء في السير أنه كان في البصرة نساء عابدات, وكانت منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثغر من ثغور المسلمين، فانتدب الناس للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد البصري خطيباً، فحضهم على الجهاد، كانت أم إبراهيم هذه حاضرة في مجلسه، وتمادى عبد الواحد في كلامه، ثم وصف الحور العين، وذكر ما قيل فيهن وأنشد في صفة حوراء: غادة ذات دلال ومرح يجد الناعس فيها ما اقترح خلقت من كل شيء حسن طيب فالليت فيها مطرح زانها الله بوجه جمعت فيه أوصاف غريبات الملح وبعين كحلها من غنجها وبخد مسكه فيه رشح ناعم تجري على صفحته نظرة الملك ولألاء الفرح فهاج المجلس وماج الناس بعضهم في بعض واضطربوا، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس وقالت لـ عبد الواحد: يا أبا عبيد! ألست تعرف ولدي إبراهيم؟ ورؤساء أهل البلد يخطبونه على بناته وأنا أضن به عليهم، فلقد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فكرر ما ذكرت من حسنها وجمالها، فأخذ عبد الواحد في وصف الحوراء فأنشد: تولد نور النور من نور وجهها فمازج طيب الطيب من خالص العطر فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأعشبت الأقطار من غير ما قطر ولو شئت عقد الخصر منها عقدت هـ كغصن من الريحان ذي ورق خضر ولو تفلت في البحر شهد رضابها لا طاب لأهل البر شرباً من البحر فاضطرب الناس أكثر مما اضطربوا، فوثبت أم إبراهيم وقالت لـ عبد الواحد: يا أبا عبيد قد والله أعجبتني هذه الجارية وأنا أرضاها عروساً لولدي، فهل لك أن تزوجه منها، وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار ويخرج معك إبراهيم في هذه الغزوة، فلعل الله يرزقه الشهادة ويكون شفيعاً لي ولأبيه يوم القيامة.
فقال لها عبد الواحد: لئن فعلت والله لتفوزن أنت وولدك وأبو ولدك, والله لتفوزن فوزاً عظيماً.
فنادت ولدها: يا إبراهيم! فوثب من وسط الناس وقال لها: لبيك يا أماه! قالت: أي بني! أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ببذل مهجتك في سبيل الله وترك العودة للذنوب؟ فقال الفتى: إي والله يا أماه! رضيت أي رضاً.
فقالت: اللهم إني أشهدك أني زوجة ولدي هذا من هذه الجارية، ببذل مهجته في سبيلك وترك العودة للذنوب فتقبله هدية مني لك يا أرحم الراحمين.
ثم انصرفت، ثم رجعت فجاءت بعشرة آلاف دينار وقالت: يا أبا عبيد هذا مهر الجارية تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله.
ثم انصرفت فاشترت لولدها فرساً وسلاحاً جيداً، فلما خرج عبد الواحد خرج إبراهيم رغم صغر سنه ,يعدو والقراء حوله يقرءون: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١]، فلما أرادت أم إبراهيم فراق ولدها دفعت إليه كفناً وحنوطاً, وقالت له: أي بني! إذا أردت لقاء العدو فتكفن بهذا الكفن, وتحنط بهذا الحنوط, وإياك ثم إياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمته إلى صدرها وقبلته بين عينيه، وقالت: يا بني! لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة.
قال عبد الواحد: فلما بلغنا بلاد العدو وبرز الناس للقتال، برز إبراهيم في المقدمة، فصال وجال، وكر وفر، تارة في الميمنة، وتارة في الميسرة، فقتل من العدو خلقاً عظيماً، ثم اجتمعوا عليه فقتلوه، فلما أردنا الرجوع إلى البصرة قلت لأصحابي: لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء، لأن لا تجزع فيذهب أجرها.
قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقوننا، وخرجت أم إبراهيم مع من خرج، فلما أبصرتني قالت: يا أبا عبيد هل قبلت مني هديتي فأهنأ، أم ردت علي فأعزى، فقلت لها: قد قلبت والله هديتك، إن إبراهيم حي يرزق مع الشهداء إن شاء الله، فخرت ساجدة لله شكراً وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب ظني وتقبل نسكي.
ثم انصرفت.
فلما كان من الغد أتت إلى المسجد فقالت: السلام عليك يا أبا عبيد بشراك بشراك، فقلت: لا زلت مبشرة بالخير فقالت: رأيت البارحة ولدي إبراهيم في روضة حسناء وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاج وإكليل وهو يقول لي: أبشري أماه! فقد قبل المهر وزفت العروس.
تأملي أيتها الغالية! كيف تساهم المرأة المسلمة في إعداد الأبطال! انظري إلى همِّ المرأة المسلمة وهو نصرة الإسلام مهما كان الثمن! انظري إلى الدور العظيم الذي تستطيع أن تقوم به المرأة المسلمة إن هي صلحت أولاً! إن الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هؤلاء الأمهات اللائي يرضعن أبنائهن مع اللبن حب الإسلام والتضحية في سبيله، فهل تكونين تلك المرأة؟ ومن يتهيب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر كثيرات يدعين المحبة، ولكن شتان بين الصادقين والصادقات، وبين الكاذبين والكاذبات، في المصائب، في الآلام، في المواقف، في الشدائد تظهر معادن الرجال والنساء.