ذكرت لكم أن الموقف تغير فجأة، فبدل العير وجدوا أنفسهم أمام النفير، ولم يرد القائد الأعلى أن ينفرد بالقرار، فعقد المجلس العسكري الاستشاري، وفي بداية المجلس وقبل أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقف قادة المهاجرين يبدون الاستعداد للقتال بعزم وبتصميم وإصرار، تكلم أبو بكر فأجاد، وتكلم عمر فأجاد، وقال المقداد: امض لما أراك الله فنحن معك، ووالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:٢٤]، لكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد ما تأخر منا رجل واحد، ويقال: إن برك الغماد: هو آخر مكان في المعمورة، وهذا الكلام يبين مدى الاستعداد والتصميم، ولذلك لا عجب أن يقول الله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ثم زكى الله الأنصار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:٩].
بل وزكى الله كل من سار على طريقهم فقال:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:١٠].
وأقول: إن كانوا هم قد استطاعوا نصره الله ورسوله فنحن أيضاً نستطيع، وإذا هم فعلوا فنحن أيضاً نستطيع أن نفعل، أليس المعتقد واحداً؟ أليس المعبود واحداً؟ أليس النهر واحداً؟ بلى، لكنهم صدقوا، فالمطلوب منا أن نصدق مع الله.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الأرض أشباه عباد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه فيا رب ابعث لنا من مثلهم نفراً يجددون لنا مجداً أضعناه فإذا أقمنا العبودية بالليل كما أقاموها سنستطيع أن نكون فرساناً بالنهار، ووالله! لو صدقنا لفتحت الأبواب، ولن يستطيع أحد أن يغلقها، والله! لو صدقنا لفتحت لنا أبواب الجنان، لكننا نحتاج إلى صدق وعزيمة وتصميم وإصرار كما كانوا.