للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف أبي بكر الصديق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم]

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ماتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:٢٨١].

عباد الله! ولئن أظهر الصديق رضي الله عنه رباطة جأش وثباتاً وقوة أمام المسلمين، وذلك خرج عليهم ليؤكد نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم، ولئن صرخ فيهم قائلاً: من كان يعبد محمداً -هكذا باسمه مجرداً- فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، إن كان قد ثبت أمام الناس فإنه لم يستطع أن يثبت أو يتمالك نفسه أمام ذلك الجسد الطاهر، وقد تمدد أمامه لا يستطيع حراكاً، فأكب عليه باكياً، وقبل ما بين عينيه مودعاً، قالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنج، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فيمم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة الأولى التي كتبت عليك فقد متها، -وفي رواية لـ أحمد: أنه رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه، فأخذه بين يديه، فمس فاه وقبل جبهته، ثم قال: وانبياه! ثم رفع رأسه، ثم حدر فاه، وقبل جبهته ثم قال: واصفياه! ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واخليلاه! مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كفكف دموعه وربط الله على قلبه، وخرج على الناس وهو على حال لا يعلمها إلا الله، فقال: يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

ثم قرأ عليهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤]، قال ابن عباس: كأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية إلا لما تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس، فما أسمع نفراً من الناس إلا يتلوها، أما عمر فيقول: ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى أهويت على الأرض، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فرجعت السكينة إلى الناس، وهدأت أحوالهم، تذكروا رباً فوق سبع سماوات، وأنه حي قيوم لا يموت، والإنس والجن يموتون، نعم لقد مات محمد، لكنه معنا في كل اللحظات، معنا في صلاتنا، أليس هو الذي قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)؟ هو معنا في حجنا، في طوافنا وسعينا، أليس الذي هو قال: (خذوا عني مناسككم)؟ معنا بسنته وبهديه، معنا بسيرته، معنا بأخلاقه وأخباره، ولقد أمرنا الله بالسير على خطاه، واتباع سنته فقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١]، بل لن نحب الله حتى نصدق في حبنا لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:٣١].