[خروج من طريق الضياع]
الشباب اليوم على صنفين، وتعال نتكلم بصراحة ونقول للشباب: ماذا تريدون؟ كثير من الشباب يدعي أنه في سعادة ويدعي أنه في راحة وطمأنينة، لكن في قرارة نفسه يعلم أنه ليس كذلك.
على غير ميعاد منذ أسابيع مضت كنت في سفر إلى الرياض فصعدت الطائرة، وبينا أنا أضع حقائبي في المكان المخصص إذا بمنادٍ من خلفي يقول: السلام عليكم يا فلان! فالتفت فإذا بشاب أعرفه منذ سنوات طوال فرقت بيني وبينه أحوال الدنيا هنا وهناك، وكان في آخر عهدي به منذ سنين مضت أنه مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء سار مع أهل الاستقامة فترة ثم عاد إلى ما كان عليه.
الذي أعرفه أنه أصبح موظفاً في الخطوط الجوية وأصبح مضيفاً، وهذه أمنية كان يتمناها هو، كنت أسأله: لماذا تريد هذه الوظيفة المتعبة؟ قال: أحب السفر هنا وهناك كل يوم في بلد.
مضت الأيام وتفرقنا، والذي أعرفه أنه التحق في ذلك المجال الذي يريده، جاءتني الأخبار أنه تزوج وأصبح أباً، لم أره منذ عشر سنوات إلا في الطائرة في ذلك اليوم، قلت: فلان! قال: نعم، قلت: أهلاً وسهلاً، كان يرتدي ثياب الوظيفة لكنه لم يكن على مهمة في تلك الطائرة، كان يريد الذهاب إلى الرياض ثم من الرياض سيصعد على طائرة إلى خارج البلاد في رحله تستغرق أربع ساعات ثم يرجع إلى البلاد في نفس الليلة.
جلست معه، وقلت: ما هي أخبارك؟ قال: أبشرك بخير وسعادة وما مر علي لحظات إلا وأنا أحسن.
قلت: عندي خبر أنك تزوجت، قال: نعم تزوجت وعندي طفل صغير اسمه خالد، قلت: ما شاء الله تبارك الله، الآن أصبحت رجلاً مسئولاً عن أسرة كاملة، فكيف هي أحوالك؟ قال: بعد أن أنجبت زوجتي هجرتني لسنة كاملة، ذهبت وتركت البيت لسنة كاملة.
قلت: لماذا؟ قال: بصراحة يا شيخ! لسوء تصرفاتي، لقد كذبت عليك حين قلت لك إني في سعادة وإني في طمأنينة، الحقيقة يا شيخ! إني أعيش هموماً وغموماً لا يعلمها إلا الله، والله يا شيخ إني في ضياع لا يعلمه إلا الله كثرة السفر وكثرة التنقلات كنت أظنها ستجلب لي سعادة؛ لكن الذي حدث أنها أحدثت لي عكس ذلك، انجرفت مع الأشرار من بلد إلى بلد ومن مصيبة إلى مصيبة حتى تركتني زوجتي وذهبت إلى أهلها سنة كاملة، رجعت بعد أن عاهدتها أني سأستقيم وأني سأعود إلى صراط الله المستقيم؛ لكني ما صدقت في عهودي ولا في مواثيقي.
يقول: منذ أيام حدث حادث أثر في حياتي، وغير من مجريات حياتي، كنت في إحدى البلاد الأسيوية، بعد أن وصلت الرحلة المفترض أننا سنبقي ثلاث ليال هناك ثم نرجع مرة ثانية، خرجت مع من خرج يسرح ويمرح في تلك البلاد، رجعت ومعي فاجرة إلى الفندق، يقول: فلما تجردت من ثيابها وتجردت أنا من ثيابي إذا بنداء هز كياني، إذا بالأذان يرتفع من مسجد مجاور لنا، يقول: خافت هي وانتفضت ولبست ثيابها ودخلت إلى دورة المياه وتوضأت ثم خرجت وجلست تصلي وتبكي، وأنا لم يتحرك شيء في داخلي، قلت في نفسي: إلى هذه الدرجة أنا وصلت إلى الضياع! إلى هذه الدرجة أصبح الأذان يؤذن ولا يحرك في قلبي شيئاً! إلى هذه الدرجة أرى من يتأثر ويبكي ولا يعني لي شيئاً! فرجعت ولم أصنع شيئاً؛ لكني رجعت وأنا أحمل الهم وأنا أقول: إلى متى وأنا أسير على هذا الطريق؟ إلى متى وأنا أسير على طريق الضياع؟ سبحان الله! فاجرة سمعت الأذان ينادي فانتفضت في مكانها ورفضت أن تفعل الفاحشة وتوضأت وصلت باكية في مكانها! يقول لي: أنا الآن تجاوزت الثلاثين سنة ولا أدري متى سيتغير الواقع؟ قلت له: كيف أنت مع الصلاة؟ قال: أنا لا أصلي يا شيخ! قلت له: وكيف تحيا إذاً وأنت لا تصلي؟! ولا تعرف أوامر الله ولا تأتمر بأوامر الله؟! قال: كأن الله قد ساقك إليَّ الليلة، أنا أحتاجك يا شيخ! أنا أريد أن أصرح لك بما يدور في داخلي.
الذي يدور في داخله هو آثار الذنوب والمعاصي، آثار البعد عن الله جل في علاه، آثار الإدبار عن صراط الله المستقيم، كيف يتغير الواقع وهو لا يعرف أبسط أمور الدين، وهي الاستقامة على صلاته.
قلت: أنا أنزل في الرياض في مهمة وأرجع على طائرة الحادية عشرة والنصف.
قال: هي موعد رجوع طائرتي أيضاً، أنا أسافر إلى بيروت ثم أرجع وأقلع على طائرة الحادية عشرة والنصف؛ قال: أرجوك أنا أريدك يا شيخ! فقد مللت هذا الطريق وهذه الحياة.
قلت: استقم في صفوف المصلين والزم المسجد واركع واسجد لله حتى يتغير الحال، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
افترقنا في صالة المطار على أن نلتقي في الساعة الحادية عشرة والنصف حتى نرجع إلى الدمام، ولظروف تأخرت في المجيء إلى المطار حتى كادت الرحلة تفوتني، حتى قال لي الشباب في الرياض: امكث يا شيخ! امكث هذه الليلة وارجع غداً صباحاً، قلت: لا أنا على موعد في المطار، أنا على موعد مع ذلك الشاب الذي واعدته على أن نلتقي مهما كانت الظروف، فقد ودعني في المطار بعين باكية ولا زلت أذكر ذلك الوجه وهو يفترق ويبتعد عني وهو يقول لي: أرجوك يا شيخ! أنا أحتاجك، فما أردت أن أتخلف عن موعده.
انتقلت من منطقة بالرياض في الساعة الحادية عشرة والطائرة تقلع في الساعة الحادية عشرة والنصف، لما وصلت إلى المطار الساعة الحادية عشرة والنصف وجدت أن الركاب كلهم قد ركبوا إلا صاحبي كان ينتظر عند البوابة، فلما رآني بكى وأخذ يقول: والله يا شيخ ما كنت لأركب الطائرة حتى تأتي أنت، ثم ركبنا، وبين السماء والأرض باح واعترف، بين السماء والأرض أعلنها توبة لله رب العالمين، قال لي فيما قال في الحديث الذي دار بيني وبينه: أبشرك يا شيخ لقد صليت ولأول مرة أصلي منذ سنوات، والله لأول مرة بين السماء والأرض أحس أني قريب من الله، لأول مرة أحس بالراحة والطمأنينة في داخلي.
أقول: أحبتي! الإنسان في ضياع حتى يتعرف على الله جل في علاه قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] من معانيها: ما خلقتهم إلا ليتعرفوا علي.
وكيف يكون التعرف على الله إلا بالركوع والسجود والخضوع لأوامره والانتهاء عن نواهيه، أنت عبد للسيد الذي خلقك وأعطاك وأمدك بكل شيء، لا بد أن تحقق العبودية حتى يحقق الله لك ما وعد، لا بد أن تسير على النهج الذي خلقك الله من أجله ظل يبكي بين السماء والأرض ويدلي باعترافات: تركتني زوجتي، تركني المقربون، تركني أناس كثيرون، والسبب: الذنوب والمعاصي، كنت أظن أن السفر والترحال سيجلب لي سعادة كنت أظن أن السفر هنا وهناك ومعاشرة هؤلاء وهؤلاء ستجلب لي سعادة، قال: والله ما استشعرت السعادة إلا مرة واحدة منذ سنوات مضت، حين انتشلني أولئك الشباب الصالحون وأخذوا يغدون بي ويروحون إلى المسجد، حينها عرفت أنني إنسان، حينها عرفت أن لي قيمة في هذا المجتمع، اجتهدت أكثر من بعض الشباب في تلك الفترة، لكن حين سلكت تلك الوظيفة وبدأت أطير من بلد إلى بلد بدأت رحلة الضياع.
بصراحة: كثير من الشباب يعيش في ضياع لا يعلم به إلا الله، هو يضحك ويتبسم لكنها ليست بابتسامة خارجة من القلب، ابتسامة وراءها ما يعبر عنها، وأشياء كثيرة يخفيها الشباب خلف ابتساماتهم.
قل لأصحاب المعاصي والضياع: ماذا صنعت المعاصي بهم، وهل جلبت لهم سعادة؟ المطلوب مني ومنك بارك الله فيك أن نسير على طريق الاستقامة، أن نعيش عبيداً لله رب العالمين.