[نقل وقائع معركة مؤتة]
على أرض مؤتة في بلاد الشام التقى الجيشان، فريق مسلم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثر من مائتي ألف من الكفار.
وضع قادة الجيش المسلم في حسابهم أن الجيش الروماني قد يلجأ إلى أسلوب التطويق فعددهم يسمح بذلك، فحينها إما أن يباد الجيش عن بكرة أبيه، أو يجبر على الاستسلام.
وفي حساب المقاييس الحربية العادية ليس من الصعب على مائتي ألف مقاتل مجهزون بأحسن تجهيز ومسلحون بأحسن سلاح أن يقوموا بتطويق ثلاثة آلاف وإبادتهم عن آخرهم، فالأمر هين ولن يستغرق ذلك إلا ساعات، فعدة الجيش الكافر خمسون ألف فارس، يتبعهم مائة وخمسون ألف مقاتل من المشاة يتسربلون بأحسن الدروع ويلبسون أحسن الخوذات.
من أجل ذلك انحاز زيد رضي الله عنه بجيشه الصغير إلى قرية يقال لها: مؤتة وعسكر فيها؛ ليجنب جيشه الصغير خطر التطويق، فتحصن المسلمون في قرية مؤتة وقام زيد بن حارثة بتعبئة الجيش الصغير وتحصينه على أحسن حال.
أخذت جيوش الرومان والعرب المتنصرة تتدفق على مؤتة في زهو وخيلاء وغرور كأنها أمواج بحر متلاطم، وجيش المسلمين الصغير المرابط في مؤتة كأنه جزيرة صغيرة مهددة بالغرق.
لقد كانت الحالة بالنسبة للمسلمين حالة مخيفة مفزعة تثير الخوف والرعب، وتزيغ منها العقول والأبصار، وقد عبر أبو هريرة رضي الله عنه عن هذه الحقيقة المفزعة وهذا الموقف الحرج بقوله: فرأى المسلمون المشركين ومعهم ما لا قبل لهم به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، وشهدت ذلك فبرق بصري، فقال ثابت بن الأقرم: مالك يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم.
فقال: لم تشهد معنا بدراً إننا لم ننصر بكثرة.
ولا لوم على أبي هريرة فإنه بشر يخاف ويذهل، ولقد كان على كل جندي مسلم في ذلك اليوم أن يقاتل سبعين رجلاً من جنود الكفار، وقد كان بوسعهم الرجوع دونما قتال، لكن طلاب الجنان لا يتراجعون، فإما نصر وإما شهادة.
لقد أقدم الجيش الإسلامي الصغير في مؤتة على أكبر مغامرة حربية في التاريخ دونما جدال، ففي القوانين والأعراف العسكرية بين الأمم الأخرى غير المسلمة أنَّ ما أقدم عليه قادة الجيش في ذلك اليوم ضرباً من الانتحار تعاقب عليه القوانين العسكرية، أما عند طلاب الجنان فالحال يختلف، فالموت في سبيل الله غاية ما يتمنى المسلم الصادق، أما اشترى الله منهم الأنفس والأموال؟ أما باعوهما على أن يكون الثمن الجنة؟ ثبت المسلمون بجيشهم الصغير، ولا زالوا يثبتون في كل مكان، إنها مخاطرة عظيمة لم يشهد التاريخ مثلها، لقد كانت نتيجة المعركة مضمونة للرومان وهي النصر الساحق، بإبادة الجيش المسلم إبادة كاملة، وذلك حسب المقاييس والمفاهيم العسكرية، لكن الإيمان صنع عجب العجاب، وهذا ما نحتاجه اليوم، فالإيمان هو الدافع للشهادة والاستشهاد، الإيمان هو الدافع للبذل والإيثار والعطاء، والحياة لا قيمة لها إلا بالإيمان، ولا طعم لها إلا بالإيمان، والإيمان هو شعار هذه الحياة.
فتدفقت كتائب الرومان بحديدها وفرسانها كأمواج البحر الهادر، فصمد أمامها المسلمون، وعددهم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثرهم خال من الدروع، فأي قوة كانت في قلوب أولئك الرجال؟! أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع جلس عمر في مجلس من المجالس فقال لمن معه: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أنَّ لي من الذهب كذا وكذا أنفقها في سبيل الله، وقال آخر: أتمنى أن لي من المال كذا وكذا أنفقها في سبيل الله، فقال عمر: أتمنى أن لي ملء هذا البيت قادة شجعان مثل أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، فعذراً أمة الإسلام! فليس عندنا ما تمنى أمير المؤمنين عمر.
إن الإيمان وصحة العقيدة والاستبسال في سبيل الله يعكس المفاهيم ويقلب المقاييس ويكسر الأغلال، فكثرة العدد والسلاح والتكنولوجيا العسكرية ليست هي التي تكفل النصر في أي حال من الأحوال، وإن لم يتوافر ذلك فليس معنى ذلك الهزيمة، فنحن لا نستمد النصر من العدة والعتاد، إنما نستمد النصر من السماء، لكن لابد من العدة والإعداد.
إن الذي يصنع النصر حقيقة ويصنع الصمود الذي يحول دون الهزائم الماحقة هو الإيمان الذي يسري بالقلوب عقيدة وضاءة مشرقة، لا عقيدة ماركس ولينين المؤلمة.
استمرت المعركة أياماً سبعة كانوا يتوقعون أنها ساعات، لم يتوقع الرومان أن المعركة ستكون على هذا المستوى من الصمود والثبات والشراسة والضراوة، ثبت المسلمون على مشارف مؤتة، بل وعلى قلتهم قاموا بهجوم معاكس أتوا فيه بالعجائب، فصرعوا عدة مئات من أفراد الجيش الروماني وأتباعه، وبعد أن صعقوهم بالهجمات بدأت جموع الرومان مع كثرتها تركن إلى الفرار والهروب من أرض المعركة، فرأوا الشرر والنار يتطايران من أعين الرجال، ورأوا الهول والعجب العجاب من التضحيات والإقدام، حاولوا اقتحام مواقع المسلمين لتطويقهم فما استطاعوا.
إن أي عاقل وأي منصف سيدرك ذلك المستوى الرفيع من الشجاعة والبطولة والتضحية والفداء والإيمان العميق الذي كان عليه المسلمون عندما يعلم أنهم كانوا ثلاثة آلاف محارب ومع ذلك استمروا يخوضون المعركة بصبر وشجاعة طوال سبعة أيام وما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٤٧]، سبعة أيام وما استطاع الجيش الروماني أن يلحق أي تقدم أو هزيمة في ذلك الجيش الصغير، إنه ثبات عندما يكثر الثبات والشجاعة والإقدام، وعندما تصور الصور والبطولات في أرض المعركة.