تجاوزنا أول النقاط ووصلنا إلى مطار البحرين، وهناك اختلط الحابل بالنابل فلا تعرف الرجال من النساء، ولا تعرف هل هذا رجل أم امرأة! فتقدمت بجوازي وتذكرة سفري إلى تلك التي تعمل في خطوط طيران الخليج، وكانت تتبسم لمن قبلي كلهم، وهذه هي وظيفتهم التبسم في وجه العملاء، فلما رأتني استنكرت وعبس وجهها وتغير، وكنت أعرف أن الرحلة إلى اندونيسيا مليئة بالنساء والخادمات، فقلت لها: لي مطلب واحد وهو: أن أكون على النافذة، وأن أكون بجانب رجل، قالت: ليس عندي لك مكان إلا هذا، قلت: من حقي أن أطلب المكان الذي أريده فأنا راكب على هذه الطائرة، ومن واجبكم أن تقدموا الخدمات المسموحة والممكنة لي، قالت: ليس هناك إلا ما أعطيتك إياه، قلت: أكيد لا يوجد غير هذا المكان؟ قالت: لا يوجد غير هذا المكان، ثم أعطتني تذكرة سفري، وبطاقة صعود الطائرة، قلت لأصحابي الذين رافقوني إلى المطار: هل يعقل أني سأركب في طائرة لمدة تسع ساعات بجانب امرأة؟ فكيف لو نمت وسقطت عليها بجانبي، أو هي نامت وسقطت علي، لا والله! لا يعقل، فتكلمنا مع أحد مسئولي المطار الذين يتعاملون مع الركاب، فقال: هات التذكرة، ثم أعطاني المكان الذي أريد، فلماذا لم تقدم لي تلك المرأة هذه الخدمة؟ أصبح الإسلام متهماً في كل مكان، والمصيبة ليس منهم وإنما هي من أبناء جلدتنا، والمصيبة ليست خارجية بل المصيبة في فهم أبنائنا وبناتنا لهذا الدين.
فتجاوزنا هذه المرحلة ثم ركبت الطائرة فإذا بثلاثة من الشباب العرب في حالة سكر، جلسوا بجانبي، أنا على النافذة وهم في الثلاثة الكراسي الوسطى في الطائرة، ثم انتظرنا قبل الإقلاع نحو نصف ساعة، فبدءوا يطلقون السب والشتم واللعان، وبدءوا يستهزءون بالعرب والمسلمين، فسكت ثم تمادوا يسبون الإسلام، لقد بدأ أبناء الإسلام يتطاولون على الإسلام، ويقول أحد هؤلاء السكارى: يظنون أن الدين صلاة، ليس هذا هو الدين، -فيتناقش مع صاحبه وكأنه ينزل عليه الوحي في الطائرة، قالوا: يظنون أن الدين صلاة وإطلاق لحى، إن الدين طهارة القلب ليس صلاة ولا كثرة عبادة، وهنا لم أستطع السكوت أكثر مما سكت، فلقد تجاوزوا الحد، فقلت لهم: اسمعوا يا سكارى؟! أمركم على أنفسكم لكن لا تتجاوزوا في الكلام، فلقد ضايقتم ركاب الطائرة، فقال لي: يا أفغاني! يا كلب!!! اذهب وقاتل من أجل فلسطين يا جبان! قلت في نفسي والله! الأفغاني أفضل من وجهك ولكنهم سكارى، فعقولهم في وادٍ وهم في وادٍ آخر، وقد قال الله عن عباد الرحمن:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:٦٣]، فهذا إن كان في كامل عقله وقواه فكيف بسكران مثل هذا؟ فقلت: لقد ضايقتم ركاب الطائرة، قال: ما أحد اشتكى إلا أنت، وهنا ثارت الطائرة كلها عليهم، وقامت لهم امرأة محجبة -لله درها- وأسمعتهم من غليظ الكلام، قالت: ألا تخشون الله في الأرض، أما تخافون من العقوبة بين السماء والأرض؟ أما تخشون وأنتم تسمعون عن العقوبات الإلهية في كل مكان، كيف تأتون الآن وتعصون الله؟ والله! لا أجالسكم في مكان واحد ثم انطلقت إلى الأمام، لقد تقاعس الرجال عن إنكار المنكر، فقامت المرأة وأنكرت عليهم، فتوعدوني وقالوا لي: الموعد في مطار أبو ظبي! وهنا تذكرت أحد أصحابي أحتاجه في مثل هذا الموقف، وأعرفه تمام المعرفة، وباستطاعته أن يمسك اثنين بقبضته، فتمنيته معي في ذلك الموقف لكن أراد الله أمراً آخر.
فلما وصلنا إلى مطار أبو ظبي بحثت عنهم فلم أجدهم، وفترة الانتظار في أبو ظبي تمتد إلى ثلاث ساعات، وما أدراك ما مطار أبو ظبي؟! فالمنكرات في كل مكان، فأين الفرار؟ فما وجدت مهرباً إلا إلى الله، فرأيت مصلى صغيراً فأويت إليه، فمكثت فيه لمدة ثلاث ساعات أقرأ القرآن، كما فر كثير من الصالحين إلى ذلك المكان، فلا مفر من الفتن إلا إلى الله تبارك وتعالى.