[عشر خصال في الصدقة]
قال الفقيه أبو الليث السمرقندي: عليك بالصدقة والجود بما قل أو كثر، فإن في الصدقة عشر خصال، خمس في الدنيا وخمس في الآخرة، أما الخمس التي في الدنيا.
فأولها: تطهير مال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن البيع يحضره اللغو والحلف والكذب فشوبوه بالصدقة) يعني: طهروه بالصدقة.
ثانيها: تطهير البدن والنفس من الذنوب كما قال الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:١٠٣].
ثالثها: دفع البلاء ودفع المرض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة)، فهو أعظم علاج لكل الأمراض، الصدقة يتبعها بالدعاء، فقلما يرد الدعاء بعد الصدقة، ومن منا لا يحزن، ومن منا لا يعرف مهموماً ولا مغموماً ولا مبتلى في بدنه.
وقبل أن تذهب إلى الطبيب، تقرب إلى طبيب الأرض والسماء بالصدقة، فإن الصدقة مرضاة لرب العالمين.
رابعها: إدخال السرور ومواساة المحتاج من غير أن يسألك، فكم من السرور تدخله عليه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم).
خامسها: فيها بركة في المال وسعة الرزق، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:٩٦]، وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:٢٧٦].
وذُكر أن رجلاً وصل سن التقاعد، فخرج يوماً ليعطى حقوقه من الشركة، وكانت حقوقه نصفها ربا، فأعطي مليوناً؛ لأن حقوقه على مدى ثلاثين أو أربعين سنة خدمة، ثم في المقابل أعطوه مليوناً آخر؛ لأنه استثمر أمواله في الربا، فقيل له: هذه أموال ربوية.
قال: بل هي أموالنا تعبنا فيها وليست ربا، إنكم أنتم الذين تضيقون على الناس، فخرج متقاعداً وأخذ المليونين، ثم بعد أشهر من تقاعده أصيب ابن له بمرض خطير، فلا زال ينقله من بلد إلى آخر حتى فنيت أمواله كلها، وعاد صفر اليدين، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:٢٧٦].
القضية قضية ثقة برب الأرض والسماوات، فلما سُئلَ هذا المتقاعد عن أمره قال: أما في الماضي فكنا لا نعرف، أما الآن فوالله لا آخذ درهماً حراماً، فترك ملايين لله فعوضه الله خيراً مما ترك.
أما الخمس التي في الآخرة، ونحن والله أحوج ما نكون إليها، وهي: الأولى: أن الصدقة تكون ظلاً لصاحبها في الحر الشديد، ودرجة الحرارة ليست أربعين درجة ولا خمسين ولا ستين، بل تدنو الشمس من رءوس العباد مقدار ميل، فيغرق الناس في عرقهم، فلا ماء يشربون، ولا أكل يأكلون، ولا ظل يستظلون، فترى الذين تصدقوا تحت غمامات صدقاتهم تظللهم في ذلك اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله يربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم فلوه).
فالصدقة تظلله في ذلك اليوم العظيم، ومنهم من يستظل في ظل عرش الرحمن الرحيم؛ بسبب تلك الصدقات وتلك الأعمال التي قربتهم إلى رب الأرض والسموات.
ثم قال: تسهيل الحساب، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:٧ - ٩]، فقد كانت أخبارهم كما قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:١٧ - ١٩]، فسهل عليهم الحساب في ذلك اليوم.
وجاء في الخبر الصحيح: أن غنياً وفقيراً التقيا عند باب الجنة، فدخل الفقير في الحال، وبقي الغني يحاسب على ماله خمسمائة سنة حتى خاف الفقير عليه، فدخل الغني الجنة بعد خمسمائة سنة من دخول الفقير، فقال له الفقير: خفت عليك فما الذي أخرك؟ قال: أخرني مالي.
وهذا المال حلال، لا ربا فيه ولا غش، ولا أكل أموال الناس بالباطل، لكن كل هذا الحساب هو السؤال فقط: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وهذا الغني طهر المال في الدنيا، وطهر نفسه بالصدقات، لكن لا بد من السؤال والحساب.
فقال الغني: حبسني مالي، حبست محبساً سال مني فيه العرق ما لو أن ألف بعير أكلت من حمض النبات ثم وردت عليه لارتوت.
هذا الحساب على مال حلال ليس فيه ربا ولا سرقات، ولا أكل مالاً بالظلم والعدوان، ولا أكل أموال اليتامى بالباطل، لا افترى على الناس، بل هو حلال أخره خمسمائة سنة، فكيف بالذي أكل مال هذا وسب هذا وشتم هذا وأخذ زوراً وبهتاناً أموال الناس؟ ثم من آثار الصدقة يوم القيامة: أنها تثقل الميزان، قال يحيى بن معاذ: ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا حبة الصدقة.
جاءت فقيرة إلى عائشة رضي الله عنها فما وجدت إلا حبة عنب فأعطتها إياها، فاستحقرتها جاريتها، فقالت عائشة التي تعرف عظم الأجر والثواب: إن الله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:٧] وكم من الذرات في حبة العنب.
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧]، فالله لا يظلم أحداً، إنما يوفى الناس حسابهم بالعدل والتمام بلا ظلم ولا نقصان.
ثم من آثار الصدقة في ذلك اليوم: الجواز على الصراط، قيل لأحد الصادقين المنفقين: ماذا صنع بك الله؟ قال: وضعت قدماً على الصراط والقدم الأخرى في الجنة.
فلا يعبر الصراط بالطائرات أو بالقطارات أو بالسيارات، بل يعبر الصراط بالأعمال الصالحة، فمنهم من يمر كالريح، ومنهم كالخيل، ومنهم كالبرق، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يهرول هرولة، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يحبو حبواً، فناج مخدوش، ومكردس على وجهه في النار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:٧١]، أي: إلا سيمر على هذا الصراط {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:٧١].
ثم من الذي ينجو؟ قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:٧٢] ومن صفاتهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:١٣٤ - ١٣٦].
والطريق سهل على من سهله الله.
ثم من آثار الصدقة: زيادة الدرجات، فمن صلى وصام ليس كمن رقد ونام، ومن قام وصلى وجد واجتهد ليس كمن تكاسل عن العمل، شتان بينهما، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:٣٥]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:٢١].
ألا يكفيني ويكفيك أن الصدقة تطفئ غضب الرب، فالأنبياء وأولو العزم يقولون يوم القيامة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ثم الكل ينادي: نفسي نفسي، نفسي نفسي، وهم أولو العزم من الرسل، خير من صلى وصام وقرأ القرآن وقام، كل يقول: نفسي نفسي نفسي، كيف سيكون مثل حالي وحالكم؟ فلا بد أن نتفكر في المصير والمآل.