[حفظ الحقوق وأداء الأمانات متعلق بقوة الإيمان]
إن الإيمان كلما قوي في القلوب حفظت الحقوق، وأديت الأمانات، وكلما ضعف في قلوبنا ضيعت الأمانات، وضيعت الحقوق.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشترى رجل من رجل عقاراً، فالذي اشترى العقار كان يحفر في عقاره فوجد جرة من ذهب في العقار الذي اشتراه، فذهب بها إلى الرجل الذي اشترى منه العقار وأعطاه الجرة، فقال البائع: أنا بعتك العقار بكل ما فيه، فقال الرجل: وأنا اشتريت العقار ولم أشتر جرة الذهب، فتنازع الرجلان في جرة الذهب وكل يقول: جرة الذهب لك، فاختصما إلى القاضي، فتعجب القاضي من مثل هذه القضية، فقال لهذا: ألك غلام؟ قال: نعم، قال: وأنت، ألك جارية؟ قال: نعم، قال: زوجاهما وأنفقا عليهما).
وهذا يوم أن كان المجتمع يثق ببعضه البعض، ويوم أن كان المجتمع شعاره الصدق والأمانة، وأسألك بالله رويعي غنم في الصحراء ما الذي يدفعه لحفظ أمانته؟ أليس هو استشعار مراقبة الله عز وجل؟! أليس هذا هو الخلق الذي في داخله الذي يدفعه إلى مراقبة الله جل في علاه، فيرتاد بأغنامه أحسن المراعي ولا رقيب عليه إلا الله؟! واليوم الموظف يتأخر ويتكاسل ويتهاون، ولا يستطيع أي رئيس شركة أو مدير مؤسسة أن يراقب كل موظف في مكتبه، فالأمانة خلق داخلي يدفع الإنسان لأداء الواجب وعدم التفريط فيه.
فهذا رويعي غنم في الصحراء يحفظ أمانته، ويرعاها حق الرعاية، فرآه ابن عمر يرتاد بغنمه أحسن المراعي فقال له امتحاناً: بعنا من هذه الشياه، فقال رويعي الغنم: أنا مؤتمن ولا أستطيع التصرف، فقال له ابن عمر امتحاناً واختباراً: قل للمالك: أكلها الذئب، -والذئاب تعدو على الأغنام كما عدت الذئاب على يوسف عليه السلام كما قال إخوة يوسف، فمن المعقول أن تعدوا الذئاب على الأغنام-، قال: قل للمالك: أكلها الذئب، فقال الأمين: وماذا أقول لله؟ إن كنت سأقول للراعي أكلها الذئب، فماذا سأقول لله حين أفرط في الأمانة؟ ماذا سأقول إذا وقفت بين يدي الله وختم على اللسان وأنطق اليدين والرجلين؟!! {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥].
فبكى ابن عمر، وأرسل إليه من يعتقه، وقال: كلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تعتقك يوم أن تلقاه، قل معي وأنت تسمع مثل هذه الأخبار: أين نحن من هؤلاء؟ وجاء في الحديث: (اقترض رجل من رجل مبلغاً من المال، فقال له صاحب المال: جئني بكفيل، قال المقترض: كفى بالله كفيلاً، قال: رضيت، قال: ائتني بشهيد؟ قال: كفى بالله شهيداً، قال: رضيت.
فاتفقا على يوم لسداد ذلك المبلغ، وكان بينهما بحر، فهذا يقيم على تلك الضفة، وهذا يقيم في الجهة الأخرى، فلما حان وقت السداد خرج الذي له المال وخرج الذي عليه المال، وكل يريد أن يلتقي بصاحبه، فهذا ينتظر وذاك يريد الذهاب، فقدر الله في ذلك اليوم أن الجو كان عاصفاً، والسفن لا تسير في ذلك اليوم، فاحتار هذا وانتظر ذاك، فهذا يريد أن يؤدي الأمانة، فلما رأى أن الوقت قد تأخر وليس له حيلة في ركوب البحر رأى خشبة على شاطئ البحر فأخذها الذي عليه الدين ونقرها، وكتب رسالة ووضعها مع المال في تلك النقرة: لقد انتظرت حتى أجد سفينة أركب فيها إليك فلم أجد، هذا هو المال وهذه رسالتي، فطلبت مني كفيلاً فقلت لك: الله الكفيل، وطلبت مني شهيداً، فقلت: الشهيد الله، فالله يؤدي عني، وقذف الخشبة على أمواج البحر تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرة.
وفي الضفة الأخرى للبحر انتظر الرجل، فأخذ ينظر في الأفق علّ سفينة تقبل من هنا أو من هناك فلم تقبل، فلما مل وطال عليه الانتظار أراد الذهاب فإذا بقطعة خشب تتقاذفها الأمواج، فقال في نفسه: لن أرجع إلى أهلي خالي اليدين، سآخذ هذه الخشبة أقطعها ثم أجففها، ثم تكون ناراً ووقوداً لي ولأهلي، فأخذها وهو لا يعلم أن الأمانة قد وضعت فيها، فلما ذهب إلى البيت وكسرها خرجت الرسالة من بين كسرات الخشبة، فقرأ الرسالة: انتظرت فلم أجد سفينة، وطلبت مني كفيل فقلت لك: الكفيل الله، وطلبت مني شهيد فقلت لك: الشهيد الله، فالله يؤدي أمانتي وهذا هو المبلغ، فأخذه ثم تعجب.
فحين صدقوا مع الله صدق الله معهم، ودارت أيام فجاء الذي عليه الدين والمبلغ معه كاملاً يريد سداده، فلما جاء إلى الرجل قال له: إن المبلغ عليك حلال وقد سدد الله عنك، وهذا المبلغ مني لك هدية، خذ المبلغ كاملاً لا أريده، فلقد سدد الله عنك.
فيوم كان شعارهم: أمانة، وصدق، وكانوا يثقون ببعضهم البعض، ويعطي كل إنسان ماله ولا يطالب إلا بحقه، كان هذا شأنهم.
قال القرطبي: الأمانة تعم جميع وظائف الدين، فكل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، فالأعراض أمانة، والأموال أمانة، والأنفس أمانة، وأعظم الأمانات هو هذا الدين.
وقد كانوا يثقون في أنفسهم وفي بعضهم البعض حتى على الرقاب، فيكفل الرجل الرجل حتى على الرقبة ولا يهاب، تقول السير: جاء شابان إلى عمر رضي الله عنه ومعهما رجل كبير يقتادانه من تلابيبه إلى عمر، فلما جاءا إلى عمر، قال: ما خطبكما؟ قالا: قتل أبانا، فنظر فيه عمر، قال: أصحيح ما يقولان؟ قال: نعم، أغضبني فضربته بصخرة على رأسه فسقط ميتاً، قال عمر: أما وقد اعترفت فلا بد من القصاص، النفس بالنفس، والعين بالعين، والأذن بالأذن، قال: يا أمير المؤمنين! لي صبية صغار يقيمون في الصحراء لا والي لهم ولا راعي، فأعطوني مهلة وفرصة كي أذهب إليهم وأخبرهم: أني لن أرجع إليهم بعد اليوم، وأدفعهم إلى من يقوم بكفالتهم، أو يقوم بسد حاجاتهم، فليس لهم بعدي إلا الله.
فقال عمر: لا نستطيع أن ندعك تذهب، فقال للغلامين: أتعفوان؟ قالا: لا، قتل أبانا، فقال عمر: لا نستطيع أن ندعك أن تذهب إلا أن تأتي بكفيل يكفلك، فمن أين يأتي بكفيل وهو لا يعرف أحداً؟ فنظر في وجوه الحاضرين وفيهم أبو ذر وقال: هذا يكفلني، والله ما رآه من قبل، وما تكلم معه قط من قبل، فقال عمر لـ أبي ذر: أتكفله؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين! أما وقد اختارني من بين هؤلاء القوم والله لا أخذله! فالمسلم أخو المسلم لا يخذله أبداً، حتى وإن كانت القضية تتعلق برقبته ونفسه.
فقال عمر: يا أبا ذر! إن لم يأت الرجل فأنت تعرف ماذا سيكون الجزاء؟ قال: أعلم يا أمير المؤمنين! قال الرجل: أمهلوني ثلاثة أيام ثم سآتي إليكم أسلم نفسي، فمضى اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث، وبدءوا يترقبون تلك الساعة التي وعد الرجل بالرجوع فيها، طال الانتظار على أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فلما أيس الناس من قدوم الرجل إذا بغبار يأتي من بعيد فلما أقبل إذا هو بالرجل يعتذر عن تأخره، فهلل الناس وكبروا.
فهذا رجل في الصحراء لا يعرف مكانه أحد! والقضية ليست قضية عشرة آلاف ريال، أو مائة ألف ريال، إن القضية قضية رقبة سيسددها في الحال.
فكبر الناس وهللوا وقال عمر للشابين: أتعفوان؟ قالا: عفونا.
وكيف لا يعفون والقضية ثقة وأمانة وصدق بين أفراد المجتمع؟! أما ترى عبد الله! أن هذا هو ما نحتاج إليه اليوم؟! أن تكون المعاملة والشعار فيما بيننا صدق وإخلاص، وصدق في البذل، وصدق في العطاء، صدق في كل شأن من شئون حياتنا، بلى والله! فهذا ما نحتاجه اليوم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.