عباد الله! إن للقوى البشرية حدوداً، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولقد رأى خالد بخبرته وحنكته أن جيشه الصغير قد أبلى بلاء حسناً، وكبد العدو الخسائر في الأموال والأرواح، ولقنهم درساً لن ينسوه، فكان لابد من خطة لإخراج الجيش من أرض المعركة بأقل الخسائر.
فقام خالد أثناء الليل بتبديل كلي للميمنة والميسرة والقلب، فبدل مواقع الرجال؛ وهدفه من ذلك أن يجعل الرومان يعتقدون أن جيشاً جديداً يشارك في القتال، فرسم هذه الخطة للإيهام والخداع والتضليل، فما كاد يطلع الصباح حتى وجد الرومان أنفسهم أمام جيش جديد ما كانوا يعرفونه منذ ستة أيام من القتال، فظنوا أن مدداً كبيراً قد جاء للمسلمين أثناء الليل؛ فدب الخوف في قلوبهم، وبينما هم في دهشتهم إذا بغبار يسد الأفق من خلف ظهر الجيش المسلم، وما هي إلا لحظات وجيزة حتى دوت وارتفعت في أرض مؤتة أصوات التهليل والتكبير، ثم انشق الغبار عن كتائب من الفرسان تتبع إحداها الأخرى في ترتيب وإحكام راكضة نحو المسلمين، وحوافر خيلها وأصوات فرسانها تصم آذان الرومان بالتهليل والتكبير، ولإدخال مزيد من الرعب في قلوب الرومان اهتز معسكر المسلمين المواجه للرومان في أرض المعركة بالتكبير والتهليل، الله أكبر، لا إله إلا الله، أي قوة تقف أمام التكبير والتهليل؟! وكل ذلك تم بتخطيط محكم من القائد المظفر خالد رضي الله عنه.
أيقن الرومان أن كل ما رأوه من تغيير كامل في الميمنة والميسرة والقلب، وتدفق تلك الكتائب التي أقبلت من خلف الجيش، إنما هو مدد كبير جاء من المدينة لمساندة المسلمين؛ ليستمروا في خوض المعركة حتى النصر؛ فدب الرعب في نفوسهم، وساد فيهم الهرج والمرج، ولسان حالهم: إذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا الأفاعيل، وظلوا يقاتلون مائتي ألف منذ ستة أيام، فماذا عسى أن يصنعوا بهم بعد وصول هذا المدد الكبير؟! وأدرك خالد بحاسة القائد الماهر المحنك ما أصاب الرومان وحلفائهم من خوف ورعب نتيجة الخطة البارعة، فاغتنمها فرصة فأمر جيشه بالهجوم، فكبر معهم خالد وكبروا واكتسحوا الرومان بهجوم صاعق كاسح، فمالت أسياف المسلمين على الرقاب، ومالت صفوفهم على خطوط الرومان الأمامية، فتملك الرعب الرومان واضطربت صفوفهم، فركبهم المسلمون وأحدثوا فيهم مقتلة عظيمة، وصفها المؤرخون بأنها مذبحة بكل المعاني.
قال ابن سعد في طبقاته وهو يروي قصة انتصار خالد على الرومان بعد توليه القيادة: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثالث القادة، وطاعن حتى قتل، ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ثم حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة رأيتها قط، حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا، واستمر خالد وجيشه يطاردون الرومان في أرض المعركة حتى أثخنوهم جراحاً.
ثم اغتنم خالد فرصة ارتباك الجيوش الرومانية واضطرابها، فأصدر أوامره إلى قادة الفرق والكتائب في جيشه بالارتداد بالجيش جنوباً كما هو متفق عليه حينما وضعوا خطة الانسحاب ليلاً، فأخذ الجيش الصغير يغادر ميدان المعركة بكل هدوء وثقة وانضباط، وأشرف خالد على عملية الانسحاب، فكان يجول بفرسه بين الكتائب ليظل النظام سائداً أثناء الانسحاب، ولتظل روح الجند والقادة ومعنوياتهم عالية فلا يدركهم خوف واضطراب، فتمت عملية الانسحاب كما أراد القائد البطل على أدق نظام ودونما أي خسارة، وأصبح الجيش الروماني شبه مشلول يسوده الذهول؛ لما لقيه على أيدي المسلمين من هجوم كاسح قام به خالد ومن معه بعد نجاح الحيلة العسكرية وخدعته الحربية الباهرة، وأصدر قادة الرومان أوامرهم إلى كافة الكتائب بألا يتعقبوا أحداً من المسلمين بعد انسحابهم؛ لأنهم ظنوا أن الانسحاب إنما هو مكيدة حربية لإيقاع الجيش الروماني في كمائن العرب إذا ما تتبع الجيش المنسحب، وهم يعرفون أنه لا أحد يجيد الكر والفر والكمائن ويحكمها مثل العرب، فخافوا من تتبع المسلمين.
والمسلمون رغم قلة عددهم أنزلوا بالرومان خسارة كبيرة، وحملوهم ذلاً وعاراً، ولسان حال الرومان: هذا قبل وصول المدد، فكيف وقد وصلهم مدد؟!