أعطيني السمع أيتها الغالية! وافتحي القلب قبل أن تفتحي الأذن، هيا نستمع وإياك إلى هذه القصة من فتاة كانت تبحث عن السعادة، هيا نسمع كلمات من فتاة انضمت إلى قوافل العائدات، فنحن في درس بعنوان: قوافل العائدات، فهيا نبدأ الدرس بقصة تلك التي عادت وانضمت إلى قوافل العائدات.
تقول الفتاة: بدت أختي شاحبة الوجه نحيلة الجسم، ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم، بحثت عنها -يعني: عن أختها- فوجدتها في مصلاها راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء، هكذا حالها في الصباح وفي المساء، وفي جوف الليل، لا تفتر ولا تمل، تقول عن نفسها: كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية، والكتب ذات الطابع القصصي، أشاهد الفيديو والتلفاز بكثرة، لدرجة أنني عرفت به، تقول: لا أؤدي واجباتي كاملة، ولست منضبطة في صلواتي، -ومثلها كثيرات- وبعد ثلاث ساعات متواصلة على التلفاز أغلقته، والأذان يرتفع من المسجد المجاور، فإذا بأختي تناديني من مصلاها، فقالت: ماذا تريدين يا نوره؟ قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تصلي الفجر، قلت: أوه! باقي ساعة على صلاة الفجر، والذي سمعتيه كان الأذان الأول، فنادتني بنبرة حنونة، وهكذا كانت قبل أن يصيبها المرض الخبيث، وتسقط طريحة الفراش، وقالت: تعالى بجانبي يا هناء! وكنت لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها، فكم كنت أشعر بصفائها وصدقها! قلت لها: ماذا تريدين؟ قالت: اجلسي، قلت: ها قد جلست، ماذا لديك؟ فقرأت بصوت عذب رخيم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:١٨٥]، وسكتت برهة ثم سألتني: ألم تؤمني بالموت؟ قلت: بلى، ولكن الله غفور رحيم، قالت لي: ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة؟ قلت: بلى، ولكن الله غفور رحيم، والعمر طويل، قالت: ألا تخافين -أخية- من الموت بغتة؟ أليست هند أصغر منك وقد توفيت في حادث سيارة، وفلانة وفلانة؟ أخية! الموت لا يعرف عمراً وليس له مقياس، فقد أجمع أهل العلم على أن الموت ليس له سبب معين، ولا وقت معين، ولا مكان معين، يأتي بغتة ونحن لا نشعر، قالت: فأجبتها: إني أخاف من الظلام، ولقد أخفتيني من الموت، فكيف أنام الآن؟ كنت أظن أنك ستقولين: إنك وافقت على السفر معنا في هذه الإجازة، فقالت بصوت متحشرج اهتز له قلبي: لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً! أسافر ربما إلى مكان آخر يا هناء! وسكتت ثم قالت: الأعمار بيد الله، وأخذنا نمشي سوياً، ففكرت في مرضها الخبيث، وأن الأطباء أخبروا أبي سراً أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً، ولكن من أخبرها بذلك؟ أم أنها تتوقع هذا الشيء؟ قالت لي: ما لك تفكرين؟ هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة؟ كلا، ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء.
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر وأنت إلى متى ستعيشين؟ ربما عشرين سنة، ربما أكثر، ثم ماذا؟ لا فرق بيننا؛ فالكل سيرحل، وسنغادر هذه الدنيا إما إلى جنة وإما إلى النار، ألم تسمعي قول الواحد القهار:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}[آل عمران:١٨٥]؟ تصبحين على خير، هرولت مسرعة وصوتها يطرق أذني: هداك الله، لا تنسي الصلاة.
وفي الثامنة صباحاً سمعت طرقاً على الباب، وهذا ليس موعد استيقاظي، وسمعت صوت بكاء وأصوات، يا إلهي! ماذا جرى؟ قالوا لي: لقد تردت حالة نوره، وذهب بها أبي إلى المستشفى، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لا سفر هذه السنة، مكتوب علينا البقاء هذه السنة في بيتنا، وبعد انتظار طويل إلى الواحدة ظهراً، اتصل أبي من المستشفى قائلاً: تستطيعون زيارتها الآن، فأتوا بسرعة، فانطلقنا إلى المستشفى وأمي تدعو لها.
إنها بنت صالحة مطيعة، لم أرها تضيع وقتها أبداً، فدخلنا المستشفى، ورأينا مناظر عجيبة! هذا يتأوه، وهذا يتألم، وهذا يصيح، وثالث: لا ندري هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة، ولا يعرف قيمة الصحة إلا من فقدها، فصعدنا درجات السلم، وكانت في غرفة العناية المركزة، فأخبرتنا الممرضة أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها، ولم يسمحوا إلا بدخول شخص واحد فقط، فدخلت أمي ووقفت أنظر من نافذة الغرفة الصغيرة، فرأيت عينيها وهي تنظر إلى أمي واقفة بجوارها، خرجت أمي ولم تستطع إخفاء دموعها، ثم سمحوا لي بالدخول والسلام عليها، بشرط أن لا أمكث طويلاً فحالتها لا تسمح، فدخلت وقلت: كيف حالك يا نوره؟! لقد كنت بخير البارحة، فماذا جرى لك؟! أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: أنا الآن -ولله الحمد- بخير، فقلت: الحمد لله، لكن يدك باردة، وكنت جالسة على حافة السرير، ولامست يدي ساقها فأبعدت يدي، فقلت لها: آسفة إذا ضايقتك، قالت: كلا، ولكني تفكرت في قوله تعالى:{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[القيامة:٢٩ - ٣٠]، ثم قالت: عليك يا هناء! بالدعاء لي، فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخرة: سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت، وبكيت، ولم أع أين أنا، استمرت عيناي في البكاء، أصبح أبي خائفاً علي أكثر من نوره، لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي، ومع غروب شمس ذلك اليوم الحزين، ساد صمت طويل في بيتنا، دخلت علي ابنة خالتي، ثم ابنة عمتي، وحصلت أحداث سريعة متتالية، كثر القادمون، واختلطت الأصوات، شيء واحد عرفته هو قولهم: نوره ماتت! لم أعد أميز من جاء، ولا أعرف ماذا قالوا، يا ألله! أين أنا؟ وماذا يجري؟ عجزت حتى عن البكاء، وأخبروني فيما بعد أن أبي ودع أختي الوداع الأخير بيده، وأني قبلتها، ثم لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً: نظري حين نظرت إليها وهي ممددة على فراش الموت، وتذكرت قولها وهي تقرأ قوله تعالى:{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}[القيامة:٢٩] وعرفت عندها حقيقة، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}[القيامة:٣٠].
في تلك الليلة ذهبت إلى مصلاها المظلم وجلست فيه، تذكرت من قاسمتني رحم أمي، فنحن توءمان، وتذكرت من شاركتني همومي، وتذكرت من نفست عني كربتي، وتذكرت تلك التي كانت تدعو لي بالهداية، فكم ذرفت عيناها من الدموع في ليالٍ طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب، والله المستعان! هذه أول ليلة لها في قبرها، اللهم ارحمها، اللهم اغفر لها، اللهم نور لها قبرها، نظرت حولي فرأيت مصحفها وسجادتها، ورأيت الفستان الوردي الذي قالت لي: سأخبئه لزواجي، تذكرتها وبكيت، وبكيت على أيامي الضائعة، بكيت بكاءً متواصلاً، ودعوت الله أن يرحمني ويتوب علي ويعفو عني، دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تكثر أن تدعو، وفجأة سألت نفسي: ماذا لو كنت أنا الميتة؟ ويا أيتها الغالية! اسألي نفسك هذا
السؤال
ماذا لو كنت أنت الميتة؟ وما هو المصير؟ تقول: لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني، بكيت بحرقة، ثم انطلق صوت: الله أكبر، الله أكبر، هاهو أذان الفجر قد ارتفع، ولكن ما أعذبه هذه المرة! أحسست بطمأنينة وراحة، وأنا أردد ما يقوله المؤذن، لففت ردائي وقمت واقفة أصلي صلاة الفجر، صليت صلاة المودع كما صلتها أختي من قبل، وكانت آخر صلاة لها، ثم جلست أدعو وأقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم اقبلني في قوافل العائدات.