قال الله جل في علاه:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}[فاطر:١٠]، وقال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}[المنافقون:٨].
في موقف عصيب، وفي أيام شديدة، تجمع فيها الكفر وأحزابه في يوم الأحزاب -وما أشبه اليوم بالأمس- لاستئصال شوكة الإسلام، وجاءوا ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، يصور القرآن هول ذلك اليوم وشدته، فيقول سبحانه:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:١٠]، يظن المنافقون وليس المؤمنون، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:١١].
في مثل هذه المواقف العصيبة تظهر عزة الفتية الذين آمنوا بربهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الجموع قد تجمعت حول المدينة، وقد تآمر اليهود والمشركون وألبوا قبائلهم واستجمعوا، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف من ضغط الحصار الخانق الذي تتعرض له المدينة وأهلها، فاتصل بقائدي غطفان سراً عيينة بن حصن والحارث بن عوف، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بحنكته السياسية، وخبرته بنفسيات الرجال أن غطفان وقادتها ليس لهم هدف سياسي أو باعث عقدي، وليس لهم هم سوى الحصول على المال والغنائم، فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم سراً وعرض عليهم عقد صلحٍ منفرد بين المسلمين وغطفان، وهو: أن تتوقف غطفان عن القيام بأي عمل حربي، وتكف الحصار عن المدينة، وتنسحب برجالها، على أن يدفع المسلمون لغطفان مقابل ذلك ثلث ثمار المدينة، فقبلت غطفان هذا العقد؛ لأنهم ما خرجوا إلا للمكسب المادي، واشترط النبي صلى الله عليه وسلم موافقة فتية الأوس والخزرج على هذا الاتفاق قبل توقيعه، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم السعدين: سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعرض عليهما الأمر بحضور قادة غطفان، واستمع السعدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قالا: يا رسول الله! أمراً تحبه فتصنعه لنا؟ أم شيئاً أمرك الله به لابد لنا من العمل به؟ إن كان أمراً من السماء فامض لما أمرك الله، وإن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه رغبة فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فاسمع يا رسول الله منا: نحن وهؤلاء القوم كنا على كفر وشرك وعبادة للأصنام، وما كانوا يأكلون ثمارنا إلا قرىً -أي: ضيوفاً عندنا- أو بيعاً، واليوم بعد أن أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله ما بيننا وبينهم إلا السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لو كان أمراً أمرني الله به ما شاورتكما، ووالله ما أصنع ذلك إلا لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر شوكتهم إلى أمر ما).
وهكذا فإن العزة لا تظهر إلا في أوقات الشدائد، قال الله:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}[المنافقون:٨]، إنها العزة المستمدة من كتاب الله، ويواسي الله المؤمنين في قوله:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:١٣٩ - ١٤٢].
لقد انقلبت الموازين يوم ثبت الفتية على دينهم، وأظهروا عزتهم بالإسلام، قال الله تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}[الأحزاب:٢٥]، ونصرهم الله وهم قلة، قال الله سبحانه:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران:١٢٣]، لما كانوا رهباناً بالليل استطاعوا أن يكونوا فرساناً بالنهار.