[تنقل الإنسان من دار إلى دار]
أعمارنا تضيع هدراً، فمتى سنعرف قيمتها؟ ومتى سنعرف أن العمر أغلى من الذهب والفضة؟ سنعرف ذلك إذا حاسبنا أنفسنا، وصدقنا مع أنفسنا، فاسأل نفسك يا ابن العشرين! واسأل نفسك يا ابن الثلاثين! واسأل نفسك يا ابن الأربعين والخمسين! كيف انقضت السنوات؟ وكيف انطوت تلك الساعات واللحظات؟ والله إنها أسرع من البرق، انظر إلى قرص الشمس هل يقف؟ هل توقفت الشمس يوماً عن الغروب أو تأخرت يوماً عن الشروق؟ إن مرور الأيام والليالي ليس له إلا دليل واحد وهو: أنني أنا وأنت نقترب من النهاية كلما انقضى يوم وكلما انقضت ليلة، فالعمر والليالي في نقصان، وأنا وأنت نقترب إلى آخر اللحظات، فننتقل أنا وإياك من دار إلى دار، وهي دور أربع، نتنقل من هذه الدار إلى تلك الدار حتى نصل إلى دار القرار، فكنت في بطن أمك في ظلمة يرعاك الله في ذلك المكان، وكنت آمناً مطمئناً في تلك الدار، فخرجت تبكي عندما تغير الحال، فلما استشعرت النور، واستشعرت الفرحة والسرور رضيت بدار الدنيا.
أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً فخرجت من بطن أمك إلى هذه الدار، فكم ستمكث فيها؟ الله أعلم، لكن خيركم في هذه الدار من طال عمره وحسن عمله، وشركم في هذه الدار، من طال عمره وساء عمله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك).
والناظر في حال كثير من الناس يرى أنهم لا يستعدون للدار التي بعد هذه الدار.
وما دنياك إلا مثل ظل أظلك حيناً ثم آذن بالزوال فدار الدنيا سريعة الانقضاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل ساعة تحت شجرة ثم تركها)، فالدنيا ساعة.
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأٍ من بني سلمة وهم يعمرون داراً من دورهم فقال: (الأمر أسرع من هذا يا بني سلمة)، فالأمر أسرع من أن يعمر الناس الدار ويسكنونها.
وكم ستمكث في هذه الدار؟ الله أعلم، فالدنيا امتحان وابتلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز)، فمن بلغه الله الستين فقد أعذره، من بلغه الله الستين فماذا ينتظر؟! كان السلف إذا بلغ أحدهم الأربعين اعتزل الدنيا، واستعد للقاء الله، واشترى كفنه، ولازم المسجد، ولازم الصيام والقيام.
ثم ستنتقل من هذه الدار إلى دار ثالثة: وهي دار القبور، وهي إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، ولك الخيار فأنت الذي تختار، كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:٣]، ثم ستخرج من تلك الدار، وسيتقرر المصير، فإما إلى جنة، وإما إلى نار، وليست الخسارة أن تخسر صفقة مالية، أو تخسر وظيفة، أو تخسر أي أمر من أمور الدنيا، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:٤٥].
وينادون ويسألون كما قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:١١٢]، سيسألون عن الأوقات وعن الأعمار وعن الخمسين والستين، قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}، فأما الذين فرطوا وضيعوا فيقولون: كما قال تعالى: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:١١٣] أي: فاسأل أولئك الذين عرفوا قيمة اللحظات والدقائق والليالي والأيام، ثم يأتيهم التوبيخ الشديد: قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:١١٥]، وقال: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:٣٦ - ٤٠]، بلى قادر، وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:٢٨].
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا وسيقف بين يدي ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.