اخترنا لكم قصصاً وآيات وأحاديث وأخباراً من أخبار أولئك الذين اشتاقت نفوسهم إلى ما عند الله، أولئك الذين يسيرون في الأرض ويرددون قوله جل في علاه:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذاريات:٢٢]، فهم سماويون لا أرضيون ولا دُنيويون ولا طينيون، يمشون في الأرض وقلوبهم معلقة في السماء، قال الله عنهم:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:٦٣ - ٦٥]، فهذا ليل ونهار عباد الرحمن الذين يريدون أن يفوزوا بجنات الرحمن، فاسمع إلى أخبار المشتاقين إلى جنات النعيم ثم قل أين نحن من هؤلاء.
ففي مجلس من مجالس الذكر والقرآن وهو مجلس عبد الواحد بن زياد يقول عبد الواحد: كنا نتذاكر فضل الشهادة في سبيل الله، وفضل الشهداء، والدرجة الرفيعة التي أعدها الله للمجاهدين في سبيله، وقد جاء في الحديث:(إن للشهداء في سبيل الله مائة درجة في الجنة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض)، فتأمل هذا الفضل العظيم الذي هو صفقة بينه جل جلاله وبين عباده الصالحين، فقد اشترى منهم الأنفس والأموال على أن يكون الثمن هو الجنة، فهذا وعد سابق، وعهد صادق، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:١١١]، ففي مجلس عبد الواحد بن زياد قال: كنا نتذاكر الشهادة في سبيل الله، وفضل الشهداء والمجاهدين، ثم قرأ قارئ في المجلس:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:١١١]، فقام غلام في السادسة عشرة من عمره فقال: يا عبد الواحد! آلله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ قلت: نعم يا صغيري! وكان يتيماً ورث عن أبوية مالاً كثيراً، قال: فإني أشهدك يا عبد الواحد! أني بعت نفسي ومالي لله على أن يكون الثمن الجنة، فمع أن هذا الغلام في السادسة عشرة من عمره إلَّا أن أفعاله أفعال الرجال، وأما اليوم فابن السادسة عشرة والثامنة عشرة يقال عنه: مراهق، وفي السابق لم يكونوا يعرفون هذه المصطلحات التي لا تمت إلى الإسلام لا من قريب ولا من بعيد، فمن كان في هذه السن فهو شاب مكلف لا بد أن يقوم بالطاعات، وأن يترك النواهي والمحرمات، فقام الصغير وقال: يا عبد الواحد! آلله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ قلت: نعم يا صغيري! قال: فإني أشهدك أني بعت نفسي ومالي لله على أن يكون الثمن الجنة، قلت: يا صغيري! أخاف حين تسمع صليل السيوف، ورمي السهام والرماح أن تفر، قال: بئس حامل القرآن أنا إذا فررت من الموت في سبيل الله، يقول عبد الواحد: فلما كان الصباح كان أول من أتى إلي يحمل ماله كله معه، فقال: يا عبد الواحد! هذا مالي كله جهَّز به المجاهدين في سبيل الله، وجهَّز نفسه، وأعد عدته وخرج مع من خرج، يقول عبد الواحد: لقد رأيت منه العجب العجاب، لقد كان قواماً بالليل، صواماً بالنهار، وكان في خدمتنا، فيوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويعطي هذا، وفي خدمة هذا، فقلت: سبحان الله! على ماذا تربى هذا اليتيم؟ إن الذي تربى عليه هذا اليتيم هو القرآن، فهو الذي صنع هذا الشاب الصغير، وصنع قبله أقواماً، وسيصنع القرآن بعده أجيالاً وأجيالاً، إنه القرآن المنزل من عند الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ فأثر القرآن سيظل باقٍ في هذه الأمة شاء أعدائها أم أبوا، فكلما ظنوا أنهم قد استأصلوا شأفة هذا الدين رددت الأمة آيات القرآن، فرجعت فيها الروح أقوى مما كانت، ولم يتعرض دين من الأديان لمؤامرات بالليل والنهار كما تعرض لها هذا الدين، ومع هذا بقي هذا الدين شامخاً عزيزاً؛ لأن الله تكفل بحفظه، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:٩]، فاستعد الشاب وخرج، فلما صفت الصفوف رأيت فارساً مغواراً، ومجاهداً صنديداً، ومقاتلاً عنيداً، وما توقعت أن هذا يخرج من هذا الغلام الصغير، وكل يوم والمعركة تزداد، وهو في كرّ وفرّ، فتراه في الميمنة وتراه في الميسرة، ويتحمل أعباء كثيرة لا يتحملها إلا صناديد الرجال وعمره ست عشرة سنة، يقول عبد الواحد: وفي يوم زاد علينا أذى الكفار، واجتمعت علينا صفوف كثيرة، وعند الظهيرة توقف القتال وأخذتنا إغفاءه واستراحة كما يستريح المحارب، يقول: فأغفى غلامي إغفاءة ثم استيقظ وهو يقول: واشوقاه للعيناء المرضية! فقال أصحابي: وسوس الغلام، قلت: ما بك يا صغيري! قال: يا عبد الواحد! رأيت رؤيا فاكتمها عليّ حتى ألقى الله، قلت: وماذا رأيت يا صغيري؟ قال: رأيت أني في روضة من رياض الجنة وفيها من الحور العين ما الله به عليم، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق انطلق، فانطلقت حتى إذا أتيت على نهر من ماء غير آسن عليه من الحور العين ما نسّاني ما خلفت ورائي، فإذا هن يشرن إلي ويقلن هذا زوج العيناء المرضية هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق انطلق، فانطلقت أمامي حتى أتيت على نهر من لبن لم يتغير طعمه، فإذا على جوانبه من الحور العين ما نسّاني ما خلفت، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق انطلق، فانطلقت أمامي حتى إذا أتيت على نهر من خمر لذة للشاربين فإذا عليه من الحور العين ما نساني ما خلفت، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، هذا زوج العيناء المرضية قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق، انطلق فانطلقت حتى إذا أتيت على نهر من عسل مصفى، فإذا عليه من الحور العين ما أنساني ما خلفت ورائي، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق أمامك، فانطلقت أمامي فأتيت على خيمة من لؤلؤ مجوفة مرتفعة في عنان السماء، فإذا على بابها من الحور العين ما نساني ما خلفت، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: هي في الداخل بانتظارك، فدخلت فرأيت ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، رأيت تلك التي نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، ورأيت تلك التي لو ضحكت لغطى نور وجهها نور الشمس والقمر، رأيت تلك التي لو بصقت في بحر لجي لأصبح عذباً فراتاً، ورأيت تلك التي أنستني ما خلفت ورائي، فأردت أن أضمها فقالت: انتظر يا حبيبي! أنت فيك روح الحياة، تفطر عندنا اليوم! وقد كان صائماً رحمه الله في أرض القتال، فتجدهم في أرض المعركة في صوم وتقرب إلى الله بالطاعات، قال: ثم أفقت يا عبد الواحد! فواشوقاه للعيناء المرضية! اكتم رؤياي يا عبد الواحد! حتى ألقى الله، يقول عبد الواحد: فما هي إلا لحظات حتى ظهرت سرية من الكفار فانطلق إليها الغلام يصول يمنة ويسرة فقتل منهم تسعة وكان هو العاشر، فجئته فإذا هو يتشحط في دمه وعلى وجهه ابتسامة، وهو يقول: أهلاً بالعيناء المرضية، أهلاً بالعيناء المرضية.
فعلى ماذا تربى هذا الغلام؟ لقد تربى على كلام الرحمن، وتربى على تلك الآيات التي تربي الأنفس وتمنيها بما عند الله جل في علاه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}[الدخان:٥١ - ٥٩]، فجنات الرحمن تحتاج إلى فئة صادقة مؤمنة لم تغرها الحياة الدنيا، بل تريد ما عند الله جل في علاه، فهذه هي أخبارهم، فما هي أخبار الشباب اليوم؟! فهم كانوا يبيتون سجداً وقياماً، فعلى ماذا يبيت الشباب اليوم؟! وهم تغنوا بالقرآن الكريم، فبماذا يتغنى الشباب اليوم؟! وهم ملئوا الآذان بآيات الرحمن فبماذا ملأ الشباب الآذان اليوم؟ وهم كانت أمنيتهم واحدة وهي: أن ينالوا رضا الله وجنات النعيم، فما هي أمنيات الشباب اليوم؟! إن سبب صلاح الشباب هم الشباب أنفسهم، وإن سبب ضياع الشباب اليوم هم الشباب أنفسهم، فاخترنا لكم قصصاً من الماضي وقصصاً من الحاضر، وهذه القصص مطعمات بآيات لو تنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.