للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفتية في ساحات الوغى اشتاقوا للجنة واشتاقت لهم]

الورقة الرابعة: الفتية في ساحات الوغى اشتاقوا للجنة واشتاقت الجنة لهم.

إن صفقة غالية تمت بين الله جل في علاه وبين الفتية المؤمنين، هم باعوا والله اشترى، على أن يكون الثمن الجنة، فالمشتري هو الله، والبائعون هم فتية الإسلام، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:١٠]، وعند الأزمات تظهر معادن الرجال.

من أعظم صفات الفتية: أنهم شجعان، وأنهم لله جند، همهم: أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، شعارهم: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً وشعارهم أيضاً: كنا جبالاً فوق الجبال وربما صرنا على موج البحار بحاراً لقد اشتاقوا إلى الجنة واشتاقت لهم.

منذ الساعات الأولى لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم والتحاقه بالرفيق الأعلى، وقفت قبائل العرب تخرج من دين الله أفواجاً كما دخلت فيه أفواجاً، حتى لم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف وجماعات متفرقة هنا وهناك، فثبت الله قلوب أهل الإيمان لما نصروا دينهم، وصمد الصديق رضي الله عنه لهذه الفتنة المدمرة صمود الجبال الراسيات، وجهز من المهاجرين والأنصار أحد عشر جيشاً، وعقد لقادة هذه الجيوش أحد عشر لواء، ودفع بهم في أرجاء الجزيرة؛ ليعيدوا المرتدين إلى سبيل الهدى والحق، فإن عادوا سلماً وإلا فالسيف بيننا وبينهم.

كان أقوى المرتدين بأساً وأكثرهم عدداً بني حنيفة، أصحاب مسيلمة الكذاب، فلقد اجتمع له أربعون ألفاً من أشداء المحاربين، فأرسل لهم الصديق جيشاً بقيادة عكرمة بن أبي جهل فرده مسيلمة على أعقابه، فقال أبو بكر: ليس لها إلا خالد، فأرسل خالداً ومعه فتية آمنوا بربهم من المهاجرين والأنصار، والتقى الجيشان على أرض اليمامة في نجد، فما هو إلا قليل حتى رجحت كفة مسيلمة وأصحابه، وزلزلت الأرض تحت أقدام الفتية المؤمنين، وأخذوا يتراجعون عن مواقفهم حتى اقتحم أصحاب مسيلمة خيمة خالد واقتلعوها من أصولها، عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الساخن، وانطلقت الآيات والتكبيرات، الآيات كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:١٥]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥]، أدرك الفتيان أن الدين في خطر، وأنهم إن يهزموا أمام مسيلمة لن تقوم للإسلام قائمة، ولن يعبد الله وحده لا شريك له في جزيرة العرب، فنظم خالد الصفوف، وميز المهاجرين عن الأنصار، وارتفعت رايات لا إله إلا الله، وهب نسيم الجنان، وعلت التكبيرات، وتنادى القوم: إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، وليرين الله ما نصنع، ثم كر القوم على القوم، فدارت رحى معركة ضروس لم تعرف حروب المسلمين لها نظيراً من قبل، ثبت قوم مسيلمة في ساحات الوغى، ولم يأبهوا لكثرة ما أصابهم من القتل، وأظهر الفتية خوارق البطولات وسجلوا ملحمة من الملحمات.

صفحات مجد في الخلود سطروها ذات الرجال لها بغير جدال فهذا فتى الأنصار ثابت بن قيس حامل لواء الأنصار يتحنط ويتكفن، ويحفر لنفسه حفرة في الأرض، وينزل فيها إلى نصف ساقيه، ويبقى ثابتاً في موقفه يساند ويقاتل عن راية التوحيد، حتى خر صريعاً شهيداً، ولسان حاله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها وهذا فتى آخر وهو زيد بن الخطاب، أخو عمر رضي الله عنهم أجمعين، ينادي في المسلمين: أيها الناس! عضوا على أضراسكم، واضربوا في رقاب عدوكم، وامضوا قدماً، أيها الناس! والله لا أتكلم بعد هذه الكلمة أبداً حتى يهزم مسيلمة أو ألقى الله فأدلي إليه بحجتي، الله أكبر، الله أكبر، ثم كر على القوم فما زال يقاتل حتى قتل، وآيات الله تناديه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩]، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:١٣].

وهذا مولى أبي حذيفة يحمل راية المهاجرين فيخشى عليه قومه أن يضعف أو يستكين أو يتزعزع فقالوا له: إنا لنخشى أن نؤتى من قبلك، فقال: إن أتيتم من قبلي فبئس حامل القرآن أكون أنا، ثم كر على الأعداء كر الأسود حتى أصيب.

كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي ولما رأى خالد وطيس المعركة قد حمي واشتد التفت إلى البراء بن مالك وقال: إليهم يا فتى الأنصار! فالتفت البراء إلى قومه وقال: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار! لا يفكرن أحد منكم بالرجوع إلى المدينة، فلا مدينة لكم بعد اليوم، إنما هو الله وحده ثم الجنة، قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٤ - ٧]، ثم حمل على المشركين وحملوا معه، وأعملوا السيوف في رقاب الأعداء حتى تقهقر مسيلمة وأصحابه، فلجئوا إلى الحديقة التي عرفت فيما بعد باسم حديقة الموت.

دخل مسيلمة وجنده الحديقة وأغلقوا الأبواب وتحصنوا بالجدران العالية، وأخذوا يمطرون المسلمين بنبالهم، فتقدم فتى الأنصار المغوار البراء بن مالك فقال: يا قوم! ضعوني على جحف وارفعوه على الرماح، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابهم، فإما أن أنال الشهادة وإما أن أفتح لكم الباب.

لقد كان في عملية استشهادية لا يقوم بها إلا {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:١٣]، فوضعوه على جحف وكان نحيل الجسم لكنه قوي الإيمان، ورفعته عشرات الرماح فألقته في حديقة الموت بين آلاف مؤلفة من جنود الكفار فنزل عليهم نزول الصاعقة، فأخذ يقاتلهم وحيداً فريداً والله معه، ويعمل في رقابهم أمام باب الحديقة، فقتل منهم عشرة وفتح الباب، وبه بضع وثمانون جرحاً ما بين رمية بسهم وضربة بسيف، فتدفق المسلمون على باب الحديقة، وأعملوا السيوف في رقاب المرتدين حتى قتلوا منهم أكثر من عشرين ألفاً، ووصلوا إلى مسيلمة الكذاب فتناوشته السيوف والرماح حتى أردوه قتيلاً، وحمل الفتى المغوار إلى رحله، وأقام عليه خالد شهراً يعالجه من جراحه حتى شفاه الله، وكتب لجند المسلمين على يديه النصر.

بمثل هؤلاء تنتصر الأمة.

ملكنا هذه الدنيا القرونا وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا بنينا حقبة في الأرض ملكاً يدعمه شباب طامحونا شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام ديناً تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طابت الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا شباب لن تحطمه الليالي ولن يسلم إلى الخصم العرينا وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا ولم تشهدهمُ الأقداح يوماً وقد ملئوا نواديهم مجونا وما عرفوا الأغاني ماجنات ولكن العلا صيغت لحونا هذه أخبارهم، فما أخبارنا؟ وأفعالهم، فما أفعالنا؟ وتضحياتهم، فما تضحياتنا؟ ومواقف فتيانهم، فأين فتياننا؟ أما الديار فكأنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجالهم