[خالد يقود الجيش إلى اليمامة]
وجه أبو بكر خالداً إلى أرض المعركة، فجمع خالد الجيوش، ووحد صفوفهم، وحثهم على التضحية والبذل والعطاء من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فما خرج القوم إلا من أجل هذا الهدف، {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٨ - ٩].
وهل هم فقط؟ لا، ولكن لكل من سار على طريقهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠].
فدارت رحى معركة ضروس لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فإن العرب إذا التقوا مع العرب كان اللقاء أخطر مما تتصور، فبدأت الأشلاء تتقطع، والرءوس تتطاير، والبطون تبقر، والدماء تسيل، فرأى خالد في هذه الحالة أن علامات الهزيمة بدأت تظهر على المسلمين فبحث عن السبب، فوجد السبب أن روح المسئولية بدأت تضعف في حياة الرجال، واليوم هذه الروح فقدت في حياة المسلمين، فمن يتصدى لآهات المسلمين هنا وهناك ويقول: أنا لها؟ ومن يتصدى لقوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)؟ ومن يقول: أنا لهذه الأزمات التي تمر على أمة الإسلام؟ لا يقوم بذلك إلا {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣].
فميز خالد الصفوف: فميز المهاجرين عن الأنصار، وميز أبناء كل أب وجعلهم تحت راية أبيهم، ثم قال لهم: اليوم نعرف من أين تأتي الهزيمة، فارتفعت معنويات الرجال، وصالوا وجالوا، وقتلوا وارتفعت الآيات والتكبيرات والتهليلات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:١٥].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠].
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٤ - ٧].
فتمايز الرجال، وارتفعت التهليلات والتكبيرات وأقبلت ريح الجنة، فصال الرجال وجالوا، وكروا وفروا، وأثخنوا في العدو الجراح، وقطعوا الأشلاء، وبقروا البطون، وأسالوا الدماء، كل ذلك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فلجأ مسيلمة ومن معه إلى حديقة الموت، فارتفعت همم الشباب في التضحية والبذل والعطاء من أجل نصرة هذا الدين، فالناس في سباق إلى الله جل في علاه، فإن استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله فافعل.
فقد قيل لأحدهم في ميدان المعركة: إنا نخاف أن نؤتى من قبلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي.
وآخر يحفر حفرة حتى رجليه ويقول لقومه: والله لا أتكلم بكلمة حتى ألقى الله فأدلي إليه بحجتي، فلما دخل القوم إلى حديقة الموت وأغلقوا الأبواب ظنوا أنهم في معزل عن أولئك الرجال الأبطال، فقال خالد بن الوليد: أين أنت يا فتى الأنصار؟ يعني: البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه، وكان نحيل الجسم لكنه قوي الإيمان، وقد كانت أول عملية استشهادية حدثت في الأرض كانت في تلك المعركة، فقال لهم البراء: احملوني على الترس، وارفعوني بالرماح ثم القوني في حديقة القوم، فإما الشهادة، وإما النصر.
فرفعوه ورموه في الحديقة، فقاتل القوم وحيداً منفرداً حتى فتح الله على يديه وبجسده النحيف أكثر من ثمانين ضربة بسيف، وطعنة برمح.
وانطلقت فلول المسلمين تقتل في فلول المرتدين حتى أثخنوا فيهم الجراح، وعلم أولئك القوم أن خلف هذا الدين {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣]، فانفضت وانقشعت تلك الأزمة التي كادت أن تفني الدولة المسلمة.