قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[يونس:٥٧]، فالإيمان هو الحياة، والحياة هي الإيمان، ومن أركان هذا الإيمان العظيم: الإيمان باليوم الآخر، ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؛ ولأهمية ذلك اليوم قدمه الله على أركان الإيمان في مواضع عدة، إشارة ودلالة على أهميته، قال الله:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[البقرة:١٧٧]، وقال:{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[البقرة:٢٣٢]، وما من صفحة من صفحات القرآن إلا وهي تذكر ذلك اليوم، لا تكاد صفحة من صفحات القرآن تخلو من ذكر ذلك اليوم وما فيه من الآيات والصور والعظات، وذلك إما تصريحاً وإما تلميحاً، قال الله:{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}[القيامة:١ - ٣]، ثم قال في آخر السورة:{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[القيامة:٣٦ - ٤٠]، قال قتادة: بلى وعزته وجلاله، بلى قادر كما قال الله:{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[لقمان:٢٨].
فتأمل وتدبر وانظر ما من صفحة من صفحات القرآن إلا وهي تخبرنا عن ذلك اليوم العظيم، فتكرار تلك الصور دليل على أهمية وعظمة ذلك اليوم {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}[هود:١٠٣ - ١٠٥]، فهذه هي القضية التي لا بد أن تشغل كل واحد منا، قضية: من الشقي ومن السعيد، عن عبد الله بن مسعود أبي عبد الرحمن رضي الله عنه قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم مثلها علقة، ثم مثلها مضغة، ثم يأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر أن يكتب أربع كلمات: عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد)، فهذه أربع مسائل لا بد أن يتفكر كل منا فيها، ثم قال ابن مسعود في آخر الحديث:(والذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فلا بد أن يتفكر كل واحد منا في قضية المصير: إما إلى جنة وإما إلى نار.
تقول فاطمة زوج عمر بن عبد العزيز رحمه الله: رأيت منه ليلة العجب العجاب! قام يصلي ثم قرأ القارعة، فما كاد يصل إلى قوله تبارك وتعالى:{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:٤ - ٥] إلا خر مغشياً عليه، وأخذ يفحص في مكانه كما يفحص العصفور، حتى ظننت وقلت في نفسي: والله ليصبحن الناس ولا أمير لهم، تقول: ثم أفاق وبدأ يقرأ ويصلي حتى إذا بلغ قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:٤ - ٥]، فخر مغشياً عليه من شدة البكاء.
فأسألك بالله العظيم! كم مرة يمر على مسامعنا هذا القول العظيم؟! وكم مرة قرعت القارعة مسامعنا؟ وكم مرة قرعت الصاخة آذاننا؟ وكم مرة مر على مسامعنا الطامة والصاخة وتلك الأسماء العظيمة التي سمَّى الله بها ذلك اليوم؟ إن لم تتأثر القلوب بالقرآن، إن لم تحيا القلوب بمواعظ القرآن، فالقضية تحتاج إلى مراجعة حسابات.
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:١ - ٤]، قال الحسن البصري: كيف أنت بأقوام وقفوا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة واحدة؟! كيف يكون حالهم؟! اليوم في وسط هذا الزحام يشتكي الناس من شدة الحر، ويشتكي الناس من شدة الأوضاع والأحوال، فكيف إذا جمع الله الأولين والآخرين على صعيد واحد؟!! وكيف إذا جمع الله أبناء آدم من لدن آدم حتى آخر من يكون على وجه الأرض؟ وكيف إذا جمعهم الله على صعيد واحد؟!