[من أخبار الدعوة قبل الهجرة]
وسأرجع بكم قليلاً إلى الوراء، وبالتحديد إلى الأيام التي كانت الدعوة في مكة في بدايتها، يوم أن أنزل الله على نبيه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:١ - ٢]، فهذه بداية الدعوة لماذا؟ {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:٥ - ٦]، فكيف ستتحمل أعباء الدعوة إلا إذا كنت صادقاً في الليل؟ وكيف ستكون فارساً بالنهار قبل أن تكون فارساً بالليل؟ فعلى مدى سنة كاملة والنبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل كله؛ فما جاء التخفيف إلا بعد سنة! وكانت خديجة تقوم معه، وكان الصحابة الذين أسلموا يقومون معه، ولما علم الله صدقهم أنزل التخفيف فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل:٢٠]، فقد كان يقوم الليل كله، ويقرأ القرآن، وإذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فلا أجمل من تلك القراءة، يقول أحد الصحابة: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بنا العشاء ليلة وقرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:١]، يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما سمعت أجمل صوتاً منه في تلك الليلة) فإذا قرأ القرآن الذي أنزل عليه فلك أن تتخيل كيف يكون وقع القرآن على النفوس! وفي بعض تلك الليالي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته يقوم الليل ويقرأ القرآن حدث أن ثلاثة من صناديد قريش وعظمائها جاءوا يتسللون في الليل من دون أن يعلم بهم أحد، وكل منهم جلس عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فما الذي أجلسهم؟ لقد أجلسهم القرآن! واليوم أمة الإسلام تجلس على جلسات غنائية حتى مطلع الفجر، وكفرة قريش يجلسون حتى طلوع الفجر يستمعون القرآن، والله إنه أمر عجيب! فما قدرنا هذا الكلام حق قدره، فقد ظهر أثر القرآن على النفوس الكافرة، ولم يظهر على كثير من أبناء المسلمين اليوم! فالقرآن لا يدخل البيت الخرب، فإذا جاء القرآن إلى قلب المؤمن ووجد فيه خراباً خرج، فلا يجلس الحق مع الباطل في مكان واحد، ولا يجتمع الغناء وكلام الرحمن في قلب كما قال ابن القيم: حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان واليوم نحن أمة ألحان وأغان، حتى في حرب السبعين، يوم أن عبر المسلمون أقوى خطوط دفاعية في العالم، عبروها أول الأيام بالتكبير والتهليل، وما هي إلا أيام حتى انقلبت الموازين، وبدأت الإذاعات تقول: أم كلثوم وفلان وفلان يقيمون الحفلات الغنائية لانتصار المجاهدين! ويوم أن انتصر المسلمون في بدر وقف النبي صلى الله عليه وسلم يثني على ربه، ويخاطب ربه بالدعاء، فما أقام حفلات غنائية كما قال أبو جهل: لننحرن الجزور، ونشرب الخمور، وتضرب لنا القينات، حتى تسمع بنا العرب قاطبة فتخافنا، إنما أثنى على ربه.
ولما دخل مكة في ساعة الانتصار -وساعة الانتصار هي أعظم الساعات واللحظات- دخل على ناقته مطأطئ الرأس يخاطب ربه بالدعاء، وهكذا دخل المنتصر، فما دخل بطراً ولا رئاء الناس.
جاء الأخنس بن شريك وأبو سفيان وأبو جهل يتسللون في ظلام الليل فيجتمعون من دون أن يعلم أي منهم بصاحبه، ويجلسون يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، حتى إذا أقبل الفجر وخافوا أن يراهم الناس رجعوا، فجمعهم الطريق فسأل كل منهم الآخر: من أين أتيت؟ وكل يدري من أين أتى صاحبه، فتلاوموا، كيف تصدون الناس عن القرآن، ثم بالليل تجلسون تستمعون إليه؟! فتعاهدوا ألا يرجعوا إلى مثل هذا، والوعد والعهد عند العرب له معنى عظيم، ثم ينكثون العهد مرة ثانية، وفي الوقت المحدد أوى كل منهم إلى مكانه خلف بيت النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن مرة ثانية، فلما بزغ الصباح وتنفس الفجر جمعهم الطريق: ماذا بكم؟ ماذا بك يا أبا الحكم؟ وماذا بك يا أبا ثعلبة؟ وماذا بك يا أبا حنظلة؟! فقد أثر القرآن على تلك النفوس، وعلموا أن الكلام ليس بكلام بشر، ثم نكثوا العهد للمرة الثانية، فلما جاءت تلك الساعة التي يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقوم فيها، إذا كل واحد منهم في مكانه في الوقت المحدد حتى إذا أصبح الصباح في اليوم الثالث ورأى بعضهم بعضاً تلاوموا نقضهم العهد والميثاق للمرة الثالثة، فما الذي جعلهم ينقضونه؟! إنه أثر القرآن، ثم تجد أن القرآن اليوم ليس له أثر في نفوسنا، وأن كلام الرحمن ليس له أثر في نفوس كثير من المؤمنين، ونحن لا نخاطب كفار اليوم، بل نخاطب المؤمنين الذين أنزل عليهم القرآن.
سبحان الله! تعاهدوا ثلاث مرات، فإذا بهم ينكثون العهد والوعد في كل مرة، ولما أصبح الصباح وقد آوتهم منازلهم، خرج الأخنس بن شريك فذهب إلى أبي سفيان فقال: يا أبا حنظلة! أسألك بالله! الكلام الذي سمعته من محمد في ثلاث ليال ماذا تقول فيه؟ قال: والله ما سمعت مثله قط، عرفت بعضاً منه، ولم أعرف بعضاً منه، لكنني وجدت له أثراً في قلبي، من الذي يعترف بهذا الكلام؟ إنه أبو سفيان عابد الأوثان، فقال الأخنس: وأنا والله كذلك، فوالله! إن لهذا الكلام أثراً واضحاً في قلبي.
ثم ذهب إلى أبي الحكم -وهو أبو جهل - فقال: يا أبا الحكم! الكلام الذي سمعته من محمد في ثلاث ليال، ماذا تقول فيه؟ قال: والله! إني لأعلم أنه حق، ما كذب محمد على بشر، فهل يعقل أن يكذب على الله؟! من الذي يقول هذا الكلام؟ إنه أبو جهل، يقول: ما كذب على البشر على مدى أربعين سنة، وهو الصادق الأمين، فقد أثر عليهم قبل الرسالة فكيف لا يؤثر عليهم بعد الرسالة، إذاً ما الخبر؟ قال أبو جهل للأخنس بن شريك: نحن وبنو عبد مناف تنافسنا الرئاسة، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وأعطوا فأعطينا، وبذلوا فبذلنا، حتى تحاذينا نحن وإياهم الركب في الشرف والمنافسة، فإذا بهم يقولون: فينا نبي يأتيه الوحي من السماء، وأنى لنا بمثل هذا؟! والله لا نؤمن به ولا نصدقه.
مع العلم أنه يدري أنه على حق، كما علم فرعون أن موسى على حق، ومع ذلك: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:١٠٢]، {قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وهو أدرى الناس بكذبه، كما علم أبو جهل بصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أول المكذبين، والدافع: هو الحقد والكراهية وبغض المسلمين قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤] لكن: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:٥٣].
والآن يقودون نفس الحملة من نفس المنطلق، وإلا فهم يعلمون في قرارات أنفسهم أننا على حق، وأن قرآننا حق، وديننا حق، ومعتقدنا حق، لكنها العداوة كما قال الله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:١٢٠]، فالكفر ملة واحدة لا تتغير ولا تتبدل، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:٨٩]، تغيظهم كثرة سواد المسلمين، وصحوة المسلمين، وصفوف المسلمين في الصلوات، وإقبال الشباب على الطاعات، هذا والله الذي يغيظهم، فكلما ظنوا أنهم تمكنوا من شباب المسلمين إذا بشباب المسلمين أفواج يملئون المساجد من جديد، فتجد عندهم الاستعداد والتضحية والبذل من أجل هذا الدين.
- يقول أحدهم: كنت أعجب من ابن السادسة عشرة والسابعة عشرة على جبال أفغانستان بربطته الحمراء، لكن ما الذي يحركهم؟ إنه: المعتقد، حب الشهادة، فهو حب لا يستطيعون أن يطفئوه في الأمة، فحب الشهادة والموت من أجل دين الله، لا يستطيع أحد أن يطفئه في هذه الأمة، شاء من شاء وأبى من أبى، فليفعلوا ما يريدون، فوالله لن يموت حب الجهاد في الأمة، وحتى النساء فلن يموت حب الجهاد في أنفسهن.
فقد خرجت امرأة تقول لـ أبي قدامة: مات أبي ومات أخي ومات زوجي في الجهاد، والله لو أن الله كتب الجهاد على النساء لخرجت مجاهدة في سبيل الله! ولا زالت نساؤنا يرددن مثل هذا الكلام، قال الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:٣٢ - ٣٣].
ولك أن تتخيل الثلاثة الكفار يتركون فرشهم في الليل، ويتسللون ويمكثون ساعات الليل كلها يستمعون إلى القرآن! فأين أثر القرآن اليوم في حياتنا؟! فنحن لا نستطيع أن نجد للقرآن أثراً والمعازف والألحان في كل مكان.
فالقضية اليوم في حياتنا صارت قضية خوف، فعندنا الطاعات، ولكن في المقابل تجد قارئ القرآن يسمع الأغاني! يسمع كلام الرحمن وكلام الشيطان، فيجمع بين المتناقضات، فهو يطيع في ساعة، ويعصي في ساعة، فلن يستقيم الحال هكذا، وإنما يستقيم الحال إذا سرنا على طريق الطاعات، وتعبدنا الله بترك الفواحش والمنكرات، فمتى يكون هذا إذا لم نصدق الآن في شدة الظروف والأحوال؟ {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)