وفي جو ليلة من الليالي الأخيرة في حياته أيقظ مولاه أبا مويهبة وقال له:(إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل القبور! ليهنكم ما أصبحتم فيما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى، ثم أقبل على أبي مويهبة فقال: يا أبا مويهبة! إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقال أبو موهيبة: بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها والجنة، فقال: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي، لقد اخترت لقاء الله والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف بعد أن قال لهم: إنا بكم لاحقون).
وبعد رجوعه من البقيع بدأ وجعه الذي قبض فيه، ودخل على عائشة ووجدها تشكو صداعاً في رأسها وتقول:(ورأساه! ورأساه! فقال: بل أنا والله! يا عائشة ورأساه!) ثم قال لها مهدئاً من روعها ومداعباً لها على ما به من شدة الألم: (وما ضرك يا عائش لو مت قبلي، فقمت إليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، فقالت له وهي تداعبه -ولم تعلم أن هذا المرض هو الذي سينقله إلى ربه-: والله لكأني ولو قد فعلت- يعني: مت- لرجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك، قالت: فتبسم صلى الله عليه وسلم) ثم ازداد به الوجع، وبدأ يطوف على نسائه وهو يقول لهن:(أين أنا غداً؟! أين أنا غداً؟!) فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذن له، تأمل إلى مراعاته خواطر نسائه مع شدة مرضه، واستمر معه المرض ثلاثة عشر يوماً، وقيل أربعة عشر، والمرض يزداد عليه يوماً بعد يوم، زيادة في التشريف والتكريم، تقول عائشة رضي الله عنها: كنت كثيراً ما أسمعه في أيام مرضه يقول: (إن الله لم يقبض نبياً حتى يخيره، فسمعته وهو يحتضر يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة)، فعلمت أنه يخير فقلت: إذاً لا يختارنا، لقد اشتاق إلى لقاء ربه كما اشتاق ربه إلى لقائه، وفي أيام مرضه مر أبو بكر والعباس على مجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال لهم أبو بكر: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بيننا، فدخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فخرج إليهم معصوب الرأس يهادى بين علي والفضل تخط قدماه في الأرض، ثم صعد المنبر لآخر مرة في حياته، صعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فارتقى في سلم العبودية حتى وصل إلى سدرة المنتهى، يوم أن أسرى به ربه ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم جُبت السماوات أو ما فوقهن بهم على منورة درية اللجم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم صعد المنبر بأبي هو وأمي ليرد الحقوق، ويعلن للبشرية جمعاء: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، صعد المنبر أمام الناس فنظروا إليه ونظر إليهم، واشتد البكاء في المسجد، قام متوكئاً على خشبة المنبر -حتى المنبر يبكيه- وقال:(يا أيها الناس! من ضربته، من أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، من ضربت له جسداً هذا جسدي فليقتص منه اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، فقام عكاشة بن محصن الأسدي أمام الناس قائلاً: يا رسول الله! أما إنك قد طلبت القصاص منك، فأنا أريد أن أقتص منك، وذلك أنك يوم كنت تسوي الصفوف يوم بدر طعنتني بعصاً في يدك في خاصرتي، وقد آلمتني، وأنت عرضت نفسك الآن للقصاص، فقام علي رضي الله عنه فقال: أنا في القصاص فداء له)، كيف لا يكون له فداء وهو الذي قال بأبي هو وأمي:(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)؟ فدىً لك من يقصر عن فداك فما شهم إذاً إلا فداك أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواك إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فقال صلى الله عليه وسلم:(لا يا علي! بل يقتص مني، فأمر بالعصا التي كانت معه يوم بدر فأتي بها، ورفعها عكاشة في يده، واتجه نحو المنبر، وارتفع صوت البكاء في المسجد)، إنه موقف من أشد المواقف وأصعبها على أصحاب محمد، حبيبهم في مرض شديد، وصحابي سيقتص منه أمام الناس على منبره (فلما وصل عكاشة إلى المنبر ألقى العصا من يده، ثم ضم الجسم الشريف، ومرغ وجهه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وبكى بكاءً شديداً وهو يقول: جسمي لجسمك فداء) فضج المسجد بالبكاء.