للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ماتت ومات الحياء معها]

وتأملي هذه القصة! فهي ليست في الأزمان الماضية، بل هي في الزمن القريب، فقد قالت فقد فتاة وهي تخبر عن والدتها: لا زلت أتذكر ذلك اليوم عندما أرادت أختي أن تتزوج وأصرت على والدتي أن تذهب معها إلى السوق، وقالت لها- يعني أختي تقول لوالدتي -: سنذهب إلى عدد محدود من المحلات، ولن نمكث سوى نصف ساعة أو تزيد قليلاً، وبعد إلحاح وإصرار وافقت أمي على تردد، وجاء ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه، واحمر وجه أمي وهي امرأة كبيرة، وتثاقلت خطواتها وكأنها تساق إلى الموت، تفقدت عباءتها وكيف تسير، سال منها العرق واقشعر جلدها، ويبس لسانها، وأخذنا ما نراه بضحكة خافتة وابتسامة عريضة، لم يفتر لسانها طوال الطريق من الدعاء والتسبيح والتهليل، وعندما دخلنا إلى بائع الأقمشة سألته أختي: بكم هذا؟ فوجه الحديث نحو والدتي ومد يده نحوها بقطعة القماش، فخرجت والدتي وهربت من المحل وتبعتها أختي، فقالت أمي باكية: لا أقبل أن أحادث الرجال، أو أن يقتربوا مني، خرجت ولم تعد مرة أخرى، إنها المرة الأولى والأخيرة.

رحمها الله! فقد ماتت ومات الحياء معها، ودفنت ودفن العفاف في قبرها، فما دخلت سوقاً ولا حادثت رجلاً أجنبياً، وما ضرها ذلك شيئاً، وما نقص من منزلتها قدراً، بل كانت ملء السمع والبصر، يقدرها الجميع، ويحبها الصغير والكبير، الكل يبحث عن رضاها، وتلبية حاجتها رحمها الله! فلم تفكر في حذاء أو فستان، ولم تعرف الموضة والأزياء، ولكنها نظرت بعيداً بعيداً فعمرت القبر وبنت الدار، كان وقتها صلاحاً وطاعة، وصياماً وعبادة، رحمها الله! فقد رحلت ورحل الحياء معها.