[باب التوبة مفتوح]
أبشر أيها التائب! أبشر أيها العائد! أبشر أيها المنضم! إلى قوافل العائدين، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:٢٢٢]، وقال جلّ في علاه فاتحاً أبواب الرحمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣]، وقال جلّ في علاه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:٧٠]، وقال أعز من قائل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤]، وقال أرحم الراحمين: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢] وقال: (يابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي).
أبشر أيها التائب! أبشر أيها العائد! أبشر أيها المنضم! إلى قوافل العائدين، قال صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
أبشر أيها التائب! فإن الله يفرح بتوبة التائبين، أنين المذنبين أحب إليه من سجع المسبحين.
يروى أن رجلاً سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به، هل من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود ثم التفت إليه، فرأى عينيه تذرفان، فقال له: إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة، فإن عليه ملكاً موكل به لا يغلق، فاعمل ولا تيأس ولا تقنط من رحمة الله.
قال عبد الرحمن بن أبي قاسم: تذاكرنا مع عبد الرحمن توبة الكافر، وقول الله تعالى: {إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:٣٨] فقال: إني لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالاً من الكافر، ولقد بلغني أن توبة المسلم كإسلام بعد إسلام.
يروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة، ثم عصى الله عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك، فقال: اللهم أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ فناداه منادي أرحم الراحمين أحببتنا فأحببناك، تركتنا فتركناك، عصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:٢٥].
اعلم أن الذي حال بين الناس وبين التوبة، والصدق في التوبة هو: طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال الله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:٣]، وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:٢٠٥ - ٢٠٦] وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:٥٥ - ٥٦].
اعلم أن مما يعينك على تعجيل التوبة والإسراع فيها والمبادرة إليها هو: ذكر الموت وساعاته، نعم إن الموت قريب، إن العمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، فاختر لنفسك النهاية التي تتمناها.
فلا إله إلا الله كيف سيكون حالي وحالك عندما يقال فلان ابن فلان قد دنا أجله وحانت ساعة الرحيل، فصاح بأعلى الصوت رباه ارجعون! رباه ارجعون! رباه ارجعون! وآخر: صاح بأعلى صوته: وا طرباه وا طرباه! غداً نلقى الأحبة، محمد وصحبه فاختر الحال التي تريدها رعاك الله! لما حضرت حسان بن أبي سنان الوفاة قيل له: كيف تجدك؟ قال: بخير إن نجوت من النار، قيل له: فما تشتهي؟ قال: ليلة طويلة أصليها كلها.
ودخل المزني على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه، فقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى ربي سبحانه وتعالى وارداً، ولا أدري روحي صارة إلى الحنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم أنشد: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما فاعلم رعاك الله! أن الآمال تطوى، والأموال تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، واعلم رعاك الله! أن الأيام والليالي تبليان كل جديد، وتقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد، فانتبه رعاك الله! وانتبه من رفقة الهجوع، وافزع إلى الله بالتضرع والخشوع، وقل: آن الأوان للانضمام إلى قوافل العائدين.
قالوا: من رزق أربعاً لم يحرم أربعاً: من رزق الدعاء لم يحرم الإجابة، وربكم يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠].
ومن رزق الاستغفار لم يحرم المغفرة، وربكم يقول: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:١٠] ومن رزق الشكر لم يحرم المزيد، وربكم يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧] ومن رزق التوبة لم يحرم القبول، وربكم يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:٢٥].
وختاماً: اعلم أن الحياة بدون الله سراب، وأن القلب لا يصلح إلا بالله جلا وعلا، فإذا أقبل على الله تعالى اجتمع وانضم بعضه إلى بعض، ووجد نفسه وسلمت فطرته {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:٦].
إلى كم تعصي وتتمرد وأقبح من قبيح كأنك تتعبد يا ناصع الثوب والقلب أسود ما هذا الأمل ولست بمخلد أما تخاف من أوعد وتهدد يا من شاب وما تاب أين البكا؟! أين الحذر من أليم العقاب، قل: ما أحلم الله ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكير والحزن دع عنك عذلي يا من كنت تعذلني لو كنت تدري ما بي كنت تعذرني دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهلا عسى عبرة منها تخلصني اكتب قصة الرجوع بقلم الندم والدموع، واسع بها على قدم الخضوع إلى باب الخشوع، وأتبعها بالعطش والجوع، واسئل الرحمة فرب سؤال مسموع، وقل ونادي في الأسحار والناس نيام يا أكرم من أمله المؤملون! يا رجاء الخائفين! يا أمل المذنبين! إن طردتني فإلى من أذهب؟ يا رحيم بمن عصاه! يا حليم على من تناساه! يا من شيمته الصفح! عصيتك جاهلاً يا ذا المعالي ففرج ما ترى من سوء حالي إلى من يهرب المخلوق إلا إلى مولاه يا مولى الموالي فالله در أقوام تركوا فأصابوا، وسمعوا منادي الله يدعوا فأجابوا، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا، ثم قصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.
اللهم سر بنا في سرب النجاة، ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا الإجابة.
يا من إذا سأله المضطر أجابه، اللهم تب علينا توبة نصوحة لا ننقض عهدها أبداً، واحفظنا بذلك لنكون بها من جملة السعداء.
اللهم اقبل توبة التائبين، واغفر ذنب المذنبين، واقبل الشباب والشيب في قوافل العائدين.
اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داع! وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات! يا رفيع الدرجات! يا مجيب الدعوات! يا رب الأرض والعرش والسماوات! هب لنا ما سألنك، وحقق رجاءنا في ما تمنيناه، يا من يملك حوائج السائلين! ويعلم ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين! اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه الأخيار، عدد ما طار طير وطار، وعدد ما استغفر المستغفرون في الأسحار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.