للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث]

يقول صاحب القصة: كنت شاباً غافلاً بعيداً عن الله غارقاً في لجج المعاصي والآثام، فلما أراد الله لي الهداية قدر لي حادثاً أعاد إلي رشدي وصوابي، ففي يوم من الأيام -وبعد أن قضينا أياماً جميلة في نزهة عائلية في مدينة الدمام- انطلقت بسيارتي عبر الطريق السريع بين الدمام والرياض ومعي أخواتي الثلاث، وكن في مقتبل العمر كالورود والأزهار، وبدل أن أدعو بدعاء السفر المأثور استفزني الشيطان بصوته وأجلب علي بخيله ورجله، وزين لي سماع لهو الحديث المحرم؛ لأظل ساهياً غافلاً عن الله، لم أكن حينئذ أحرص على سماع إذاعة القرآن أو الأشرطة الإسلامية النافعة للمشايخ والأئمة والعلماء؛ لأن الحق والباطل لا يجتمعان في مكان واحد وكما قيل: حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان إحدى أخواتي كانت صالحة مؤمنة ذاكرة لله حافظة لحدوده - نحسبها كذلك والله حسيبها- طلبت مني أن أسكت صوت الباطل، وأن أستمع إلى صوت الحق، ولكن أنى لي أن أستجيب وقد استحوذ علي الشيطان وملك علي جوارحي وفؤادي فأخذتني العزة بالإثم؟! رفضت طلبها، وقد شاركني في ذلك أختاي الآخرتان، فقد كانتا غافلتين كحالي، كررت أختي المؤمنة طلبها فازددت عناداً وإصراراً، وأخذنا نستهزئ بها ونسخر منها، وقلت لها: إن أعجبك الحال وإلا أنزلتك على قارعة الطريق، فسكتت على مضض، وقد كرهت هذا العمل بقلبها بعد أن أنكرته بلسانها وأدت ما عليها، والله سبحانه يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، وفجأة وبقدر سبق من الله انفجرت إحدى عجلات السيارة ونحن نسير بسرعة شديدة فانحرفت السيارة عن الطريق وهوت في منحدر جانبي وأصبحت رأساً على عقب بعد أن انقلبت عدة مرات، صرنا في حال لا يعلمها إلا الله العلي العظيم، اجتمع الناس حول سيارتنا المنكوبة، وقام أهل الخير بإخراجنا من بين الحطام والزجاج المتناثر، ولكن ما الذي حدث؟ لقد خرجنا جميعاً سالمين، إلا من بعض الإصابات البسيطة، ما عدا أختي الصالحة الصابرة الطيبة فقد أصيبت إصابات بالغة وماتت من حينها، لقد ماتت أختي الحبيبة التي كنا نستهزئ بها، واختارها الله إلى جواره، وإني لأرجو أن تكون في عداد الشهداء الأبرار، وأسأل الله عز وجل أن يرفع منزلتها، ويعلي مكانها في جنات النعيم، أما أنا فقد بكيت على نفسي قبل أن أبكي على أختي، وانكشف عني الغطاء فأبصرت حقيقة نفسي وما كنت فيه من الغفلة والضياع، وعلمت أن الله قد أراد بي خيراً، وكتب لي عمراً جديداً لأبدأ حياة جديدة ملؤها الإيمان والعمل الصالح.

أما أختي الحبيبة فلا تكاد تغيب عن مخيلتي، أراها في كل حين، وأتخيلها وأذرف دموع الحزن والندم، فكم وجهت لنا تلك النصائح، وكم دعت لنا تلك الدعوات، لقد كان موتها سبباً لاستيقاظي وانتباهي من غفلتي، أتذكر تلك الذنوب والمعاصي وأتساءل في نفسي: هل سيغفر الله لي؟ فأجد الجواب في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].

هذه نصيحتي للغافلين والمدبرين والمعرضين عن الصراط المستقيم، أقول: من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث، أفيقوا من غفلتكم، وخذوا من غيركم العبرة، قبل أن تكونوا لغيركم عبرة، والكيس من اعتبر بغيره، قبل أن يكون عبرة للآخرين.