للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استشعار وتذكر اليوم الآخر من أهم أسباب المحافظة على البنيان]

ما الذي قاد أولئك الرجال إلى حفظ الإيمان؟ وما هي القضية التي كانت قوية في حياتهم ضعيفة اليوم في حياتنا؟ إنها قضية الإيمان باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر هو الذي قاد أولئك الرجال إلى صنع تلك العجائب التي صنعوها، واليوم هذا الشعور ضعف في حياتنا، ولو استشعرنا أن هناك يوماً سيجمع الله فيه الأولين والآخرين فهل ترى الرجل يتخلف عن الصلوات؟ أتراه يتنازل عن الطاعات؟ أتراه يتساهل في المحرمات؟ من علم أنه لله عبد، وأنه بين يدي الله سيقف، أتراه يضيع العمر؟ أبداً والله! والله! ما ضاع المسلمون إلا يوم ضعف استشعار الإيمان باليوم الآخر في حياتهم، كما قال الله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:٦ - ٧].

{ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:١٠٣ - ١٠٥].

وقد جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم قال له: هناك قضية شغلتني بالليل والنهار، قال له إبراهيم: دعني فأنا أيضاً مشغول، فعندي ما يكفيني ويشغلني، قال: يا شيخ! إما تشغلني، وإما أنا أشغلك بقضيتي، قال له إبراهيم: هي ثلاث قضايا لا تفارقني بالليل ولا بالنهار، قال الرجل: هات الأولى، قال: الأولى: يقول الله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:١٠٦]، وأنا لا أدري إلى أي فريق أنتمي، وممن أكون: أمن الذين تبيض وجوههم أو من أولئك الذين تسود وجوههم.

والثانية: يقول الله: ((فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ))، وأنا لا أعلم أمن الأشقياء أكون أم من السعداء.

والثالثة: يقول الله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:٧]، فلا يوجد بين البين فإما جنة وإما نار.

فاستشعارهم لليوم الآخر هو الذي غير مجرى حياتهم، وضعف هذا الشعور اليوم في حياتنا هو الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، ولو تدبرت آيات هذا الكتاب الحكيم فستجد أنها في كل صفحة من صفحاته تربطنا بذلك اليوم، {الْقَارِعَةُ} [القارعة:١]، {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:١]، {الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:١]، {ذَلِكَ يَوْمٌ} [هود:١٠٣]، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:١]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:١]، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:٢٨١].

فمن تعلق قلبه بذلك اليوم حافظ على البنيان، ومن ضعف تعلقه بذلك اليوم هدم البنيان ولم يبال.

يقول ابن الحسن البصري: أمسى أبي صائماً حتى حانت ساعة الإفطار، فقدم إليه الطعام فقيل له: الطعام يرعاك الله، قال: فاسترجع وبكى وأبكى حتى عافت نفسه الطعام، ثم قرأ عليهم قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:١٢ - ١٣]، فسبحان الله عندما تعرض عليهم أمور الدنيا يربطوها بالآخرة، يقول: حتى عافت نفسه الطعام، وأصبح صائماً لليوم الثاني على التوالي، ولم يذق الطعام ولا الشراب حتى حانت ساعة الإفطار فقيل له: الطعام -يرعاك الله-، فاسترجع وقرأ قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:١٢ - ١٣]، حتى عافت نفسه الطعام، وأمسى ليله كله باكياً حتى أصبح صائماً لليوم الثالث على التوالي، ولم يذق الطعام ولا الشراب.

فأسألك بالله ما الذي حرمهم لذيذ المنام ولذيذ الطعام أليس هو استشعار اليوم الآخر؟ أليس هو استشعار المسئولية عند الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى؟ فلما حانت ساعة الإفطار لليوم الثالث على التوالي ذهب ابنه إلى ثابت البناني، ويحيى البكاء ويزيد الضبي فقال: أدركوا أبي! ثلاثة أيام لم يذق الطعام، ولا الشراب! فلا زالوا يكلمونه ويحدثونه حتى ذاق سويقة من تمر، ثم قرأ عليهم قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:١٢ - ١٣]، تخيل المشهد يرعاك الله، {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:١٤ - ١٦]، ثم الخطاب لنا {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:١٧ - ١٩]، والله! لو أن القلوب سليمة لتقطعت ألماً من الحرمان، ولكنها سكرى بحب الدنيا، وسوف تفيق بعد زمان، والله! إن استشعارهم لليوم الآخر هو الذي حرك أولئك الرجال، وضعف هذا الشعور في حياتنا هو الذي جعلنا نهدم البنيان كلما بنيناه، متى يكتمل البنيان؟ وأنى له أن يكتمل إذا كان هذا يبني وهذا يهدم؟! فالقضية خطيرة جد خطيرة، القضية قضية مصير إما جنة وإما نار وليس لهما ثالث.