[الشقاق والنزاع في جيش قريش قبل معركة بدر]
عسكرت قريش بالعدوة القصوى من الوادي، وكانوا خبراء حرب، فبثوا سلاح الاستكشاف والاستخبارات حول جيش المدينة، فدار عمير بن وهب -الذي سيأتي خبر إسلامه- حول الجيش المسلم، وكان من شياطين قريش ومن أشد الناس عداوة للمسلمين، ولكن الله يهدي من يشاء، دار حول جيش المدينة ثم عاد ليخبرهم: بأن جيش محمد قرابة ثلاثمائة، يزيدون قليلاً أو ينقصون، ثم أخذ جولة ثانية خلف الجيش حتى يعرف إن كان هناك كمائن أو مدد سيأتيهم ثم رجع يطمئن جيش مكة: أن لا مدد أو كمائن، فلا وجود لأي كمين خلف جيش المدينة.
وهذا عمل عسكري احترازي، ولا بد أن نعطي كل ذي حق حقه، حتى لو كان كافراً، فلابد أن نقول: فيه من الصفات كذا وكذا، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:١٥٢]، لكنه عمل عسكري عمله ونصح به قادة مكة وحذرهم وهو يصف جيش النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: ماذا رأيت؟ قال: رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ثلاثمائة رجل كأنما يتطاير الشرر من أعينهم! وقوله: (نواضح يثرب)، يعني: الجمال، تحمل الموت الناقع، يعني: الموت المؤكد، ثم قال: قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، ووالله! ما أرى أن الرجل منهم يقتل قبل أن يقتل رجلاً منكم، فإن أصابوا منكم بعددهم فما قيمة البقاء؟! فسمعوا كلامه، وبدأت المعارضة من جديد، وبدأت الانشقاقات والخلافات، فهناك اتفاق ووفاق، وهنا خلافات وانشقاقات.
وقد ذكرنا أن الأخنس بن شريك رجع في ثلاثمائة رجل لما علم أن القافلة قد نجت، فحقن دماء قومه، ثم بدأت معارضة ثانية ضد أبي جهل تدعو إلى إعادة الجيش إلى مكة دونما قتال، وكانت هذه المعارضة أكبر من المعارضة الأولى.
ففي المعارضة الأولى قال الأخنس بن شريك لقومه: اجعلوا جبنها فيّ أنا أتحمل جبنها وارجعوا ولا تقاتلوا القوم، لكن هذه المعارضة كانت أقوى من التي قبلها، فقد قادها عتبة بن ربيعة سيد بني عبد شمس، يسانده حكيم بن حزام، وحكيم أسلم وحسن إسلامه، ومن مناقبه أنه الوحيد الذي ولد داخل الكعبة.
فظهرت الخلافات قبل المعركة بيوم أو بعض يوم، فكيف ستكون معنويات جيش بدأت الخلافات فيه قبل ساعة الصفر؟ وقد دعت هذه المعارضة إلى عدم الاصطدام مع جيش المدينة، والموادعة والرجوع إلى مكة دونما قتال، ومشى حكيم بن حزام بين الجيش حتى يدعوهم إلى مثل هذا الأمر، وتأييد هذه المعارضة، فجاء حكيم إلى عتبة يعرض عليه الأمر -وكان عتبة أول قتيل بين الصفين- فقال: يا أبا الوليد! إنك كبير قريش، ورجل عاقل، وسيدها المطاع، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر، قال: وما ذاك؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، يعني: تتكفل بديته، قال عتبة: قد فعلت، إذا كنت ضامناً بذلك، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يفلحوا فبرأي صاحب الجمل الأحمر).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعرف عقول الرجال، ويعرف عقلية أبي جهل، ويعرف عقلية عتبة، قال عتبة لـ حكيم: ائت ابن الحنظلية، يعني: أبا جهل، فإني لا أخشى على الناس غيره، يعني: أنه متكبر متجبر، وكان قد ولى نفسه على الجيش من دون أن يختاروه، ثم قام عتبة خطيباً في الجيش داعياً للانسحاب دونما قتال فقال: يا معشر قريش! إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، يا معشر قريش! إنكم ستلاقون آباءكم وإخوانكم وبني عمومتكم، ووالله لا أراك إلا ستنظر إلى وجه تكره أن تقتله، فارجعوا وخلوا بين محمد والعرب، فإن كفيتموه كفيتموه بغيركم، وإن ظهر فعزه عزكم.
يعني: لماذا نتواجه مع الآباء والأبناء وبني الأعمام وبني الأخوال؟! فكلنا عشيرة واحدة، فارجعوا، وخلوا بين محمد وبين سائر العرب.
فكانت هذه المحاولة من عتبة مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى الجيش: (إن يكن في القوم من خير ففي راكب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا).
وما أن سمع أبو جهل بدعوة عتبة حتى استشاط غضباً، وركبه الشيطان، ثم اتهم عتبة بالجبن والخوف على ابنه أبي حذيفة الذي أسلم، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، فقال أبو جهل: والله ما منعه إلا الجبن وخوفه على ابنه، فقال لـ حكيم رسول عتبة: قد انتفخ -والله- سحره، يعني: انتفخت رئتيه، والعرب كانت تقول هذا لمن بلغ منه الخوف مبلغه، فقال: والله ما أراه إلا قد انتفخ سحره من الخوف والجبن من لقاء محمد وأصحابه، كلا والله لا نرجع، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بـ عتبة إلا أنه رأى أصحاب محمد أكلة الجزور وفيهم ابنه فخاف عليه، والله! لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد.
ثم تزايد غضب أبي جهل وجرد سيفه وضرب حصانه على عاتقه، فقال إيماء بن رحضة الغفاري: والله بئس الفأل هذا.
ولما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ -والله- سحره، قال: سيعلم من ينتفخ سحره أنا أم هو؟ فما رأيكم في هؤلاء القادة الآن؟ قيادة الجيش بدأ بينها هذا الشقاق وهذا النزاع لأمر يريده الله، وتغلب الطيش على الحكمة والروية، فهدمت معارضة صاحب الجمل بسبب الطيش والتكبر والتجبر، فكان لا بد من الاصطدام بين جيش تغلب عليه الطمأنينة والاستقرار وأمرهم شورى، وبين فريق آخر بدأ المعركة بشقاق وخلافات، ولذلك بين الله لنا في سورة الأنفال كيف يكون النصر؟ وأنه يكون بالاتصال بالله، فلا بد أن تتصل القوة الأرضية بالقوة السماوية فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:٤٥ - ٤٦].
فقد ذهبت ريحهم بسبب الخلافات {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:٤٢]، ما الذي قاد أبا جهل إلى مثل هذا؟ إنه الحقد والكراهية لمحمد ولأصحابه، وهذا هو الذي يقودهم اليوم أيضاً، هذا هو الذي يقود اليهود والنصارى ضدنا، إنه الحقد والكراهية {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٨].
ما ذنب خمسين ألف في أفغانستان؟! وما ذنب مليون ونصف على مدى عشرة أعوام يقتلون؟! إنه الحقد على الإسلام وأهله، لكنهم لن يضروا أهل الإسلام لا من قريب ولا من بعيد.
وكذلك كان أبو جهل من أشد الناس حقداً وعداوة على المسلمين وبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد تميز من الغيظ لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكان هو صاحب المشورة بقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: نجمع مائة من الشباب من شتى القبائل حتى يضيع دم محمد هدراً بين القبائل، ولا تستطيع بنو هاشم أن تطالب بدم محمد، فهو صاحب ذلك الرأي، فتخيل شعوره يوم أن خرج النبي صلى الله عليه وسلم ووصل إلى المدينة، وتخيل تلك الفرصة التي ينتظرها عندما أخبر أن جيش المسلمين ثلاثمائة رجل فقط، وهو قد دبر ألف حيلة حتى ينتقم من المسلمين ويصب عليهم جام غضبه {ولَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:٤٢]، فقد كان يرى أنها فرصة ذهبية للفتك بالمسلمين خاصة لما علم بقلة عددهم، فقال: اليوم نفعل بهم الأفاعيل، وما درى أنهم سيفعلون به الأفاعيل، وستنقلب عليه الموازين، مع العلم أن أبا جهل يعلم في قرارة نفسه أن محمداً صلى الله عليه وسلم على حق، لكنه الحقد الأسود.