[سبحان مغير الأحوال]
الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.
قال الراوي: لقد تغير صاحبي، فضحكاته الوقورة تصافح أذني كنسمات الفجر الندية، وكانت من قبل ضحكات ماجنة مستهترة تصك الآذان وتؤذي المشاعر، ونظراته خجولة تنم عن طهر وصفاء، وكانت من قبل جريئة وقحة، وكلماته تخرج من فمه بحساب، وكان من قبل يبعثرها هنا وهناك، تصيب هذا وتجرح ذاك، لا يعبأ بذلك ولا يهتم، ووجهه هادئ القسمات تزينه لحية وقورة، وتحيط به هالة من نور، وكانت ملامحه من قبل تعبر عن الانطلاق وعدم المبالاة والاهتمام.
نظرت إليه وأطلت النظر في وجهه ففهم ما يدور في خاطري، فقال: لعلك تريد أن تسأل: ماذا غيرك؟ قلت: نعم، هو ذاك، فصورتك التي أذكرها منذ لقيتك آخر مرة قبل سنوات تختلف عن صورتك الآن! فتنهد قائلاً: سبحان مغير الأحوال! قلت: لابد أن وراء ذلك قصة؟ قال: نعم، وسأقصها عليك، ثم التفت إلي قائلاً: كنت في سيارتي على طريق ساحلي، وعند أحد الجسور الموصلة إلى أحد الأحياء فوجئت بصبي صغير أمامي يقطع الطريق، فارتبكت واختلت عجلة القيادة من يدي، ولم أشعر إلا وأنا في أعماق المياه، فرفعت رأسي إلى أعلى لأجد متنفساً، ولكن الماء بدأ يغمر السيارة من جميع النواحي، مددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح، فتأكدت حينها أني هالك لا محالة، وفي لحظات -لعلها ثوان- مرت أمام ذهني صور سريعة متلاحقة، هي صور حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون، وتمثل لي الماء شبحاً مخيفاً وأحاطت بي الظلمات الكثيفة، وأحسست بأني أهوي إلى أغوار سحيقة مظلمة، فانتابني فزع شديد، فصرخت في صوت مكتوم: يا رب {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:٦٢].
ودرت حول نفسي ماداً ذراعي أطلب النجاة، لا من الموت الذي أصبح محققاً، بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت علي الخناق، وأحسست بقلبي يخفق بشدة، فانتفضت وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة، وأستغفر ربي قبل أن ألقاه، وأحسست أن كلما حولي يضغط علي، كأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة، فنطقت بالشهادتين، وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وفي الحال تذكرت أن زجاج السيارة الأمامي مكسور، فقد شاء الله أن ينكسر في حادث منذ ثلاثة أيام، فقفزت دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، وخرجت من أعماق الماء، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة.
ونظرت فإذا جمع من الناس يقفون على الشاطئ، وكانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني نزل اثنان منهم وأخرجاني من الماء، فوقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، غير مصدق أني نجوت من الموت، وأني الآن بين الأحياء، كنت أتخيل السيارة وهي غارقة في الماء فأتخيلها وهي تموت، وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي.
لقد تخلصت منها وخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة في الركض بعيداً والهرب من هذا المكان الذي دفنت فيه الماضي الدنيء، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، فدخلت البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لممثلات وراقصات ومغنيات، فاندفعت إلى الصور أمزقها، ثم ارتميت على سريري أبكي، ولأول مرة أبكي، وأحسست بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت لطالما سمعته وتجاهلته، إنه صوت الأذان يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة، فلعلكم تقرءون كلماتي هذه وأنا تحت التراب، قد فارقت الروح الجسد، وصعدت إلى باريها، فاسألوا الله لي الرحمة.
اللهم يا من وسعت رحمته كل شيء! ارحم عبدك الضعيف المسكين.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم لو رأيت تائباً لرأيت جسماً مطروحاً تراه في الأسحار على باب الاعتذار مطروحاً، سمع قول الإله يوحي فيما يُوحَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:٨].
التائب مطعمه يسير، وحزنه كثير، ومزعجه مثير، وكأنه أسير، قد رمي مجروحاً، ولسان حاله يردد: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، التائب أنحل بدنه الصيام، وأتعب قدمه القيام، وحلف بالعزم على هجر المنام، فبدل بدناً وروحاً وهو يردد: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:٨].
الذل قد علاه، والحزن قد وهاه، يذم نفسه على هواه، وبهذا صار ممدوحاً، يردد ويعيد: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:٨].
التائب يبكي جنايات الشباب التي بها قد اسود الكتاب، فإن من يأتي إلى الباب يجد الباب مفتوحاً، يردد ويقول قول الله: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:٨].
اللهم إننا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها.